إسرائيل.. أسوأ من الأبرتهايد

سواء في بلعين أو شيخ جرّاح أو سلوان أو معبر إيرز، يُنشد النّشطاء الفلسطينيّون والإسرائيليّون شعارهم المفضّل في التظاهرات المناهضة للاستيطان، مطالبين إسرائيل بإنهاء الاحتلال ومتّهمينها بأنّها دولة قائمة على نظام الفصل العنصريّ أو الأبرتهايد. وكما أنّ رمز (CRS-SS) ذاته لا يعني أنّ شرطة مارسيلّين كانت مطابقة للقتلة التّابعين لهاينريتش هيملر، فلا ينبغي إذًاً اعتبار هتاف الجماهير بمثابة تحليل علميٍّ لحالة النّظام القائم في إسرائيل، فهذا الهتاف مجرّد صرخة تعبّر عن الغضب الشّعبيّ.
لطالما حذّرنا رفاقنا في جنوب أفريقيا من الوقوع في فخّ التّسرّع باستخدام مفهوم الأبرتهايد، مصرّين على خصوصيّة هذا النّظام. فلنبقِِ هذا التّحذير في أذهاننا، ولنضع كلمة «أبرتهايد» بين مزدوجين لدى استعمالها خارج سياقها الجنوب أفريقيّ.
أنّ محكمة راسِل حول فلسطين تعقد جلستها المقبلة في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا. إذًا، لا بدّ من أن يتطرّق المتداولون في الجلسة إلى بُعد «الأبرتهايد»، ويجوز تحليل النّظام الاستيطانيّ في ضوء هذا المفهوم تحديدًا.

إنّ كلمة «أبرتهايد» هولّنديّة الأصل وتعني الفصل. وتضمّ هذه التّسمية فلسفةً سياسيّة حول الفصل العنصريّ. برزت هذه الفلسفة على أنّها مشروع سياسيّ معاصر في أواخر القرن التّاسع عشر، متزامنةً مع الصّحوة القوميّة لدى الشّعوب الخاضعة لظلم الإمبراطوريّات العظمى (كالإمبراطوريّة القيصريّة، والإمبراطوريّة العثمانيّة، والإمبراطوريّة النّمساويّة المجريّة) فبدأوا يطالبون بحقّ تقرير المصير. وتعبّر هذه المطالبة عن حقّ الشّعوب بنيل استقلالها وإنشاء دولٍ قوميّة متجانسة عرقيًّا قدرَ المستطاع. ولطالما كان هذا التّوق إلى التّجانس العرقيّ محفوفًا بمخاطر اندلاع حروب التّطهير العرقيّ الهادفة أساسًا إلى ضمان التّجانس العرقيّ والتّجانس القوميّ للكيانات السّياسيّة حديثة العهد (وخير دليلٍ على ذلك حروب البلقان المأساويّة).
تُعتبر الصّهيونيّةُ حركةً سياسيّة تأسّست في أوروبّا الوسطى في أواخر القرن التّاسع عشر. وتعكس هذه الحركة الظّواهر الخاصّة بتلك المرحلة، لا سيّما ظاهرة الاستيطان ومفهوم الدّولة القوميّة.

يشكّل الاستيطانُ، من بين أمورٍ أخرى، وسيلةً تسهم في حلّ مشكلة الظّلم الّذي تتعرّض له جماعةٌ ما، عبر إرغامها على الإقامة في «أراضٍ عذراء». ونشير على سبيل المثال إلى أنّ فرنسا أرسلت الألزاسيّين الّذين رفضوا نيلَ الجنسيّة الألمانيّة لاستعمار الجزائر عقب هزيمة فرنسا في الحرب الممتدّة بين عامَي 1870 و1871. وانطلق ثيودور هرتزل أيضًا من الرّوحيّة ذاتها حين التقى أسيادَ هذا العالم لمطالبتهم بأرضٍ يلجأ إليها اليهود الّذين عانوا ظلم الإمبراطوريّة القيصريّة في مطلع القرن العشرين، ولم تُستبعد آنذاك أوغندا أو الأرجنتين. وقد بذل هرتزل والكثير من الزّعماء الصّهاينة جهدهم كي لا يعرقلوا عمليّة اندماج يهود أوروبّا الوسطى والغربيّة مع يهودٍ مشرّدين و«بدائيّين» فرّوا من أوروبّا الشّرقيّة لانتشار الفقر فيها ومعاداة السّاميّة.

ويُعدّ التّجانسُ العرقيّ والقوميّ والطّائفيّ ظاهرةً أخرى من الظّواهر الّتي طغت على تلك الفترة وارتكزت عليها الحركة الصّهيونيّة، ذلك أنّ هذه الحركة، على غرار الشّعب التّشيكيّ واليونانيّ والسلوفينيّ والبولنديّ، تتوق إلى تشكيل نسيجٍ متجانس ديموغرافيًّا قدرَ الإمكان، أي كيانٍ يهوديّ. وتقرّ الحركة الصّهيونيّة، بصراحة نسبيّة، بأنّ معاداة السّاميّة شرعيّة، إذ تسعى إلى التّخلّص من «الجماعات الخارجيّة»، بما معناه أنّ الصّهيونيّة حركة تطهير عرقيّ ذاتيّ. وحين يُسيطر الاستيطان الصّهيونيّ على أرض معيّنة، فذلك من أجل إنشاء كيانٍ (أو وطن القوميّ، و«يِشوف»، أي تجمّع استيطانيّ، ثمّ دولة) متجانسٍ عرقيًّا قدرَ المستطاع. ويندرج منطق الفصل العنصريّ في صميم الصّهيونيّة، ويُعتبر طرد السّكّان العرب الأصليّين جزءًا لا يتجزّأ من مخطّطها.
حتّى الصّهيونيّة اليمينيّة، الأكثر تطرّفًا، تفضّل احتلال مساحة صغيرة من الأرض حيث يعيش عددٌ قليل من السّكّان الأصليّين، على مساحة كبيرة يعيش فيها عدد كبير من السّكّان العرب. وتجدر الإشارة إلى أنّ الجدل السّياسيّ في أوساط الحركة الصّهيونيّة أوّلاً، ودولة إسرائيل ثانيًا، يدور حول الصّيغة الأمثل الّتي من شأنها التّوفيق بين أكبر مساحة من الأرض وأقلّ عدد من السّكّان العرب.

إذًا، إن أخذنا في الاعتبار الدّور الجوهريّ للفصل العنصريّ في الفلسفةِ الصّهيونيّة، ووضعِها في حيّز التّطبيق، نرى أنّ مفهومَ الأبرتهايد ليس خارج اللّعبة السّياسيّة الإسرائيليّة، بل حاضر فيها. ولكنْ، ينبغي تسليط الضّوء على خصوصيّات هذا المفهوم، عملاً بنصيحة المناضلين الجنوب أفريقيّين وعددٍ من المثقّفين الفلسطينيّين على غرار حسن جبارين، مؤسّس جمعيّة «عدالة» الفلسطينيّة لحقوق الإنسان.

استيطان، وتطهير عرقيّ، وأبرتهايد

يرتبط الأبرتهايد ارتباطًا وثيقًا بالاستيطان، غير أنّ هذا الأخير نادرًا ما يرتكز على نظام الفصل العنصري. وفي الواقع، تتنوّع نماذج الاستيطان، فنعدّ على سبيل المثال الاستيطان الّذي يمارس الإبادة الجماعيّة (كما حدث في أميركا وأستراليا) والاستيطان القائم على استغلال السّكّان الأصليّين (كإرغام الجزائريّين على القيام بالأعمال الشّاقّة والمُرهقة) والاستيطان المُستند إلى استيراد العبيد (كما في أميركا الشّماليّة) واستيطان التّطهير العرقيّ، أي طرد السّكّان الأصليّين من موطنهم (كممارسات الصّهيونيّة). ونعدّ أيضًا نماذج استيطانيّة هجينة، كالاستيراد القسريّ لليد العاملة (أي الرّقّ) بعد إبادة السّكّان الأصليّين (وهو نموذج خاصّ بأميركا الشّماليّة).

نرى وفق منطق استيطانيّ بسيط أنّ نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، لم يرتكز على طرد السّكّان السّود والأقلّيّات العرقيّة الأخرى، بل على استغلالهم، إذ يُعتبر الاستعمار أوّلاً وسيلة لاستغلال موارد البلاد الطّبيعيّة وتوفير اليد العاملة من السّكّان الأصليّين. فقد كان شعار المستوطن الأبيض في الجزائر إرغام السّكّان الأصليّين على القيام بالأعمال الشّاقّة والمُرهقة. وعلى الرّغم من أنّ الاستيطان غالبًا ما يقترن بإزاحة السّكّان المحلّيّين وانتزاع أراضيهم وارتكاب المجازر بحقّهم، بيد أنّ هذه الممارسات ليست في صميم المنطق الاستيطانيّ.
إنّ الصّهيونيّة الهادفة إلى إنشاء وطن قوميّ لليهود بأقلّ عدد ممكن من السّكّان غير اليهود، ليست مجرّد استيطان قائم على اغتصاب الأرض كأشكال الاستيطان الأخرى، بل على طرد السّكّان الأصليّين والتّطهير العرقيّ. وبالتّالي، نستنتج مدى خصوصيّة الاستيطان الصّهيونيّ وكيفيّة عمله.
حين يعلن المدافعون الفلسطينيّون عن حقوق الإنسان أنّ هذا الاستيطان «أسوأ من الأبرتهايد»، فإنّهم بذلك يضعون الإصبع على الجرح، ويلفتون انتباه العالم إلى واقع أنّ الصّهيونيّةَ استيطانٌ يرتكز على طرد السّكّان والتّطهير العرقيّ، ويهدف إلى إرساء أسس الدّولة القوميّة أي الدّولة اليهوديّة. ويتّضح من هذا المنطلق أنّ الصّهيونيّة فعلاً أكثر شراً من الأبرتهايد، إذ لا ينطوي هذا الأخير على تهجير النّاس من موطنهم ونفيهم منه.

يبدو من الضّروريّ، في مطلق الأحوال، أن نشير إلى أنّ اتّفاقيّة الأمم المتّحدة المناهضة للفصل العنصري تقدّم تعريفا واسعا جدًّا لهذه الجريمة الّتي تتخطّى خصائص نظام الفصل العنصريّ الّذي كان ساري المفعول في جنوب أفريقيا سابقًا، ما يعني أنّ النّظام المطبّق في إسرائيل اليوم، بغضّ النّظر عمّا إذا كان أسوأ من الأبرتهايد أم لا، ينبغي أن يخضع للمساءلة والمحاسبة استنادًا إلى القانون الدّوليّ عن جرائم الأبرتهايد كما حدّدها المجتمع الدّوليّ. فدولة إسرائيل متّهمة بارتكاب جرائم كثيرة تنصّ عليها الاتّفاقيّة الدّوليّة لقمع جريمة الفصل العنصريّ والمعاقبة عليها، والّتي اعتُمدت في العام 1973، ما يكفي بحدّ ذاته لإنهاء الجدال الدّائر في هذا الشّأن.

سنكتفي بوصف جريمتين ارتكبتهما إسرائيل، وهما أوّلاً التّمييز الهيكليّ ضدّ الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، أي ضدّ فلسطينيّي العام 1948. ويظهر التّمييز الّذي تمارسه دولة إسرائيل جليًّا في تعريفها لكيانها على أنّ دولة يهوديّة وديموقراطيّة! ويستتبع ذلك أنّ يهود إسرائيل يتمتّعون بوضع مميّز بالنّسبة لباقي السّكّان، وعلى رأسهم الأقلّيّة العربيّة. وحتمًا لا تقتصر المشكلة على تعريف الدّولة، بل تُسنّ قوانين، وتُنشأ مؤسّسات شبه حكوميّة (كالجمعيّة اليهوديّة، والصّندوق القوميّ اليهوديّ،) تهدف إلى تكريس الامتيازات اليهوديّة، انطلاقًا من قانون العودة الّذي بموجبه تُمنح الجنسيّة الإسرائيليّة إلى كلّ من يطلبها، شرط أن يكون يهوديًّا، في حين يُحكم على ملايين الفلسطينيّين وأطفــالهم بالنّفي، ويُحرمون من حقّهم في العودة إلى وطنهم لأنّهم وُجدوا لسببٍ أو لآخر خارج حدود ما سُمِّي بدولة إسرائيل، لا سيّما أنّ القوّات المسلّحــة الصّهيونيّة تطرد أعداداً كبيرة من الفلسطينيّين يوميًّا. وثانيًا، أقرّت مجموعة كبيرة من القوانين (لا سيّما في ما يُعنى بالمجال العقاريّ،) والمراسيم، والمخطّطات الحكوميّة من أجل هدف واحد هو «تهويد» المناطق الّتي لم تُطهَّر كفايةً بعد.
نرى إذًا أنّ كل هذه الممارسات العنصريّة الّتي تصبّ في مصلحة اليهود، تُدينها صراحةً الاتّفاقيّة الدّوليّة لقمع جريمة الفصل العنصريّ.
 
تحويل الأراضي الفلسطينيّة إلى «كانتونات» أو «بانتوستانات»

نذكر من ضمن أوجه النّظام الصّهيونيّ المتناغمة مع الفصل العنصري سياسةً أطلق عليها أرييل شارون تسمية سياسة إقامة «الكانتونات» على الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ شهر حزيران من العام 1967. وترتكز هذه السّياسة على إنشاء كيانات فلسطينيّة مستقلّة تتمتّع بإدارة ذاتيّة، على غرار بانتوستانات جنوب أفريقيا، وهي عبارة عن معازل عنصريّة. وكان قادة بريتوريا يعتبرون هذه «البانتوستانات» دولاً فعليّة تضمّ حكومةً وتتمتّع باستقلال إداريّ واسع، غير أنّ وجودها وحدودها وسلطاتها كانت رهنًا بالسّلطة المركزيّة في جنوب أفريقيا، أي بسلطة البيض في بريتوريا. إذًا، لم يكن استقلال البانتوستانات في الواقع غير استقلال وهميّ، إذ خضعت كلّيًّا للأبرتهايد.
وشهدت فلسطين الخديعة ذاتها، إذ سعى اتفاق أوسلو إلى إقامة «بانتوستانات» فلسطينيّة مستقلّة تديرها «السّلطة الفلسطينيّة»، بحيث تبقى «الأراضي الفلسطينيّة المستقلّة» خاضعة كلّيًّا لقرارات الإدارة العسكريّة الإسرائيليّة، حتّى في ما يتعلّق بمسألتها الوجوديّة. ويُشكّل سيناريو عمليّة السّور الواقي خيرَ دليل على ذلك، إذ انطلق من فرضيّات متناقضة أدّت إلى نتائج متناقضة، ذلك أنّ هذه العمليّة هدفت إلى سحق البانتوستانات وتفكيك السّلطة الفلسطينيّة عبر استبدالها بفرض سلطة الإدارة العسكريّة الإسرائيليّة المباشرة.
ليست إسرائيلُ جنوبَ أفريقيا، ويختلف نظامها الاستيطانيّ في كثيرٍ من النّقاط عن نظام بريتوريا السّابق. وأكاد أسمع بعض المناضلين الفلسطينيّين يعبّرون بسخرية عن أسفهم إزاء هذا الواقع… ولكن، نظرًا إلى أنّ أوجهًا كثيرة من الصّهيونيّة تتماهى فعلاً مع ممارسات الأبرتهايد، فلا يُعتبر استخدام هذا المفهوم عند الحديث عن إسرائيل تعميمًا غير لائق، لا سيّما في البند المتعلّق بانتهاكات إسرائيل للاتّفاقيّة الدّوليّة لقمع جريمة الفصل العنصريّ والعقوبات النّاجمة عن ذلك.
يُمكننا مواصلة الجدال حول ما إذا كان شرعيًّا أم لا استخدامُ مفهوم الأبرتهايد لوصف الاستيطان الصّهيونيّ في الأراضي المحتلّة وعلى حدود دولة إسرائيل، غير أنّ علينا انتهاز الاتّفــاقيّة الدّوليّة لمناهضــة الأبارتيد، وذلك بغضّ النّظر عن موقفنا إزاء استخدام هذا المفهوم، من أجل دعم حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، واختصارها (BDS)، فضلاً عن المطالبة بمعاقبة إسرائيل على انتهاكاتها الّتي لا تُعدّ ولا تُحصى لهذه الاتّفاقيّة. ويمكننا تحقيق ذلك، متسلّحين بنموذج جنوب أفريقيا حين كانت البلاد رازحة تحت وطأة الأبرتهايد. 

السابق
تيرو جينس.. باب أمني عبر مراقبة مواقع المقاومة
التالي
نحاس: مشروع قانون الكهرباء يحول اليوم الى المجلس النيابي