منطق الحماية بالحل الداخلي

تجتاز الأزمة السورية شهرها السادس هذا الأسبوع. بورصة القتل اليومي استقرت على وتيرة منتظمة. يحكى عن ممارسات للعنف لا علاقة لها بالمواجهات المسلحة. الخطف والتعذيب والتصفية والكمائن والقنص واستباحة كل الحصانات والضمانات والحرمات دليل على شكل من الصراعات الأهلية التي تخرج عن الضبط والسيطرة. لا يظهر في الأفق القريب أي حل سياسي. لا مكان للتعريب في ظل الخصومات الحالية التي ظهرت جليّة في اجتماع وزراء الخارجية العرب والموقف السوري من الأمين العام لجامعة الدول العربية. أما التدويل فقد قطع خطوات كبيرة برغم التحفظ الروسي والصيني. لم يطرح الغرب أصلاً فكرة التدخل العسكري مستبعداً النموذج الليبي. المردود النفطي والمصالح الاقتصادية وإعادة الإعمار وتعويض الكلفة الحربية مغرية في ليبيا، كذلك سهولة الموقع الجغرافي. في سوريا الرهان على إسقاط الدور السياسي واستنزاف الدولة والمجتمع.

حصل الغرب على معظم هذه النتيجة من دون تدخل عسكري مباشر. استدراج سوريا إلى هذا المأزق الوطني أخطر بكثير مما يعتقده النظام ومعارضوه. جزء أساسي من الدعم لطرفي الصراع خارجي. تماسك الجيوش في المواجهات الداخلية ليس مسألة حاسمة في إنقاذ أي نظام. لا يظهر ان الغرب يراهن على تفكيك الجيوش بل على تغيير أدوارها ووظائفها. خلافاً لكل تفسير للمشروع الغربي فالأولوية هي لإعادة بناء السلطة على الجغرافيا السياسية ذاتها مع استثمار كل عناصر التناقضات الوطنية. إذا كان التهويل بالتقسيم بهذا المعنى فهو حاصل عبر استحضار واستنفار كل العصبيات السابقة على هوية الشعب ومركزية الدولة. لكن التدخل الخارجي يفجّر هذه التعارضات ويغذيها ولا يصنعها. لا مكان لتأثير الخارج إلا في بيئات سياسية مأزومة عاجزة عن صياغة وإنتاج وحدتها الوطنية. الجيوش مهمة في البلدان النامية بوصفها المؤسسة الأكثر حداثة وتماسكاً ومن حولها تتشكل المؤسسات السياسية. لكن الجيوش لوحدها لم تعد تملك الشرعية الكافية بعد ان تحولت إلى مؤسسات أمنية لحماية النظام وليس لمهمات قتالية وطنية. تحتاج الأنظمة إلى تجديد نفسها عبر القوى السياسية الشعبية التي باتت في أكثريتها تستمد رصيدها من ثقافة المجتمع الإسلامية. الإسلام السياسي يشكل تعويضاً أديولوجياً عن مهمات كثيرة لم تنجزها الجولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي. تكبر قوة الإسلام السياسي كلما كانت الدولة ضعيفة الحضور والشرعية بالنظر إلى إنجازاتها في مجالات التنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان. لا أحد يجهل ان الإسلام السياسي هو تيارات عدة ومذاهب مختلفة، خاصة في المجتمعات التعددية والمتنوعة. حكم الإسلام السياسي مقلق ويستثير الخوف على الحريات العامة والفردية وعلى ثقافة الأقليات وحريتها. قيام الأنظمة على الهويات الدينية هو شكل آخر للاستبداد. لكن الاستبداد السياسي في ثوب مدني أو علماني لم يوفر في أي مكان ضمانات للحرية والكرامة.

أزمة الدولة في المشرق العربي في ان الامتيازات الاجتماعية اتخذت شكلاً طائفياً. من الطائفية السياسية المأزومة في قيادتها الوطنية نشأت ظاهرات التطرف الديني. يستحيل في عصرنا إقامة استقرار المجتمعات والدول على التوازنات الطائفية مهما كانت ثقافة الفئة المسيطرة أو ذات الأرجحية في السلطة. المشكلة في قواعد وركائز الاجتماع السياسي لا في الثقافات. عبثاً البحث عن حلول من خارج الصيغة المدنية للحكم. الصيغة المدنية تعني ان الحقوق متساوية بين الأفراد وأن الحريات متاحة للجماعات. تجربة الدول التي عززت سلطة الأقليات، بالمعنى الطائفي، هي التي سقطت من لبنان إلى العراق. انهارت سيادة هذه الدول أمام التدخل الخارجي لأن أنظمتها السياسية فشلت في بناء الوحدة الوطنية. لن يحل التدخل الخارجي هذه المشكلة بل هو يغذيها.
 
مناشدة الغرب المساعدة على حماية التوازنات السياسية تؤكد فشلنا في بناء الدولة الحديثة. لا يهم الغرب أبداً ان ينقذ الجماعات الأكثر ليبرالية ولا ان يحافظ على الأقليات كقضية إنسانية أو حضارية. في لبنان والعراق والآن في سوريا يسعى الغرب إلى إقامة منظومة سياسية محلية وإقليمية تحفظ مصالحه الكبرى من النفط إلى إسرائيل. الغرب ليس معنياً بطلبات التدخل أو «الحماية» أو بوقف دعمه لسياسات تسرّع الحرب الأهلية أو تهدد أمن الجماعات أو المجموعات. اللبنانيون بصورة خاصة ليس من حقهم بمرجعياتهم الدينية أو المدنية أن يخطئوا التقدير بعد ان أذاقهم الغرب هذه المرارات في محطات كثيرة منذ 1958 و1975 و1982 و2005. أميركا التي تقود المعسكر الغربي وتهيمن على السياسات الدولية الأخرى لا تسمع نداءات أو مناشدات أو اعتراضات دول كبرى. خاضت حرب احتلال العراق برغم معارضة «المجتمع الدولي» وأقرب حلفائها. لا تشعر أميركا بالحرج حين تتصدى لأي إجراء يساعد شعب فلسطين الذي يخضع لأبشع أنواع الاضطهاد في التاريخ المعاصر. مشكلتنا نحن العرب شعوباً ودولاً، جمهوراً وقادة رأي وحركات، اننا نعلق الكثير من قضايانا على توازنات الخارج وصراعات الخارج. لا زلنا نطرح مسألة الاستقلال والسيادة وكأنهما منفصلتان عن مشروعنا الداخلي. في أعماق شخصيتنا السياسية رهبة من قوة الخارج وفي أعماق تفكيرنا خلل في فهم ان المساواة في ما بيننا كأفراد وكشعوب هي المدخل الضروري للتقدم لا الاستقواء بهذه أو تلك من السياسات الدولية.

إذا كان من درس تاريخي لنا في تجارب العرب منذ أعطي لهم ان يديروا شؤونهم بأنفسهم هو أن يعوا وجودهم كشعوب لا كجماعات ما قبل الدولة. هذا هو المعنى الأصيل للثورة الديموقراطية التي علينا بلورة شروطها وأفكارها وبرنامجها والصيغة المثلى للحكم الذي يجسدها. ليس الغرب «الأب الصالح» ليقول لأي جماعة كيف تتصرف مع شركائها في الوطن في أي دولة من العالم العربي ولا كذلك أي معسكر سياسي آخر. النظام الرسمي العربي عاش في أحضان النظام الدولي وهو يدفع الآن ثمن تناقضاته. لا مخرج من هذه الآلام العربية المصاحبة لمشروع التغيير إلا في اجتراح الصيغ الملائمة لعيشنا معاً في الحاضر والمستقبل، أما الماضي فقد عصفت به حركات الشعوب ولن يقوى على تجديد نفسه لا بعنف الداخل ولا بالخارج. 

السابق
باب السجن!!
التالي
شبّيحة الجنوب مجددا: إلى محيبيب دُر