كبـرتُ فـي الضاحيـة

كان لي من العمر أربع سنوات عندما انتقلنا إلى "بئر العبد" في مقابل "البنك اللبناني الفرنسي"، لنتشارك بيتنا الأول مع عمي وأسرته. كانت أوقاتي المفضلة آنذاك، اللعب مع أولاد عمي في ذلك الملعب الرملي الشاسع ذي التراب الأحمر، قبل أن يجرفوه كرمى لعيني الجسر الضخم الذي أنشأوه ليربط بين الحازمية وطريق المطار، فلا يضطر المسافرون إلى العبور في الضاحية.
تنقلنا كثيراً في الضاحية. من بيتنا الأول في "بئر العبد" إلى بيت آخر يجاوره، ثم إلى "حي ماضي"، فـ"الشياح"، فـ"تحويطة الغدير"، فـ"حارة حريك". شهدتها على مدى عشرين عاماً، توسّع شوارعها وتزداد جسوراً وزحمات سير، وتفرض التعليم الديني على مدرستي حين كنت في الصف الابتدائي الثاني حسب ما أذكر، ثم تشرّع طرقها للعشرات من الباصات التي تحمل الرقم 4، ثم تطردني من محل "الكومبيوتر" حين كنت في العاشرة من عمري لأني "بنت". رأيتها تحتفل بتحرير الجنوب في العام 2000، ثم تغرق وتغرقني معها في أشباحها وركامها في العام 2006، ثم تعلن الحياة على موتها بأعداد لا تنتهي من المطاعم والمقاهي الجديدة، حيث بات وجود النادلات المحجبات مشهدا ليس بغريب، مع أنهن "بنات".
أعرف هذه البقعة كما أعرف تلك الشامة التي ولدت بها أسفل رقبتي. أعرف رائحة بسطة السمك على زاوية شارع الحوزة، وأذكر جارتنا "أم علي" بعباءتها السوداء وباب منزلها الخشبي المثقوب الذي كانت تسدّه بكتل من ورق المحارم الأبيض. أذكر الطفولة الشقية والعنيفة أحيانا في أزقة الحيّ، وزينة رمضان وبسطات الكلاج والجلاب عند كل ناصية. أذكر ذلك الصبي الذي أبرحته ضرباً دفاعاً عن أخي الأصغر، ثم لذت بالفرار حين جاءت أمّه تشتكي لدى أمي. أمرّ أحيانا أمام مدرستي القديمة ولا أملك إلا أن أفكّر في "مسّ سمر" وابتسامتها الآسرة. ما زلت حتى اليوم أشعر باللسعات فوق جسدي، عندما أصررت على انتزاع حذائي العالق في وكر للدبابير في ذلك المعلب الرملي، فيما قامت هي بمهاجمتي بشراسة لا أفهم لها سبباُ حتى اليوم. لم أكن أريد إلا حذائي الليلكي المفضل.
أعرف كم كان يغضبني أن أعود في وقت متأخر من الليل لأجد محيط منزلي حول مجمع سيد الشهداء، منطقة مغلقة إما للاحتفال بذكرى ما أو لإحياء ليلة القدر. أذكر من حوالى سنتين، يوم خرج السيد حسن نصر الله من زاروب منزلي ليفاجئ المشاركين في مسيرة العاشر من عاشوراء. ظهر فجأة، ثم اختفى بين الحشود، وتفرغت أمي في الأسبوعين التاليين لتروي القصة بحذافيرها لكل من سوّلت له نفسه ألا يكون موجودا هناك في تلك اللحظة التاريخية من حياة الزاروب.
أعرف تماما كم هو صعب الاختلاف في الضاحية، لكن لسبب ما، يصرّ عنصر الانضباط "صديقي" – المناوب في تقاطع حاجز الجيش القديم – على إيقاف السير ليفسح لي المجال من دون أن أضطر للانتظار.
أعرف ما يقول أهل الضاحية في الخفاء وفي العلن.
ما زالت ماثلة في ذهني كأنها تحدث الآن، تلك الليلة التي انتشلتني فيها أمي من فراشي وأنا أتدلى من على كتفها لتهرع بي إلى منزل جيراننا في الطابق الثاني لأنه "أكثر أماناً" من الطابق الرابع، في حال تحولت الغارة الوهمية إلى حقيقية. أذكر كل الليالي "الوهمية" التي تلت. تنبهت في أثناء وجودي خارج لبنان، إلى أني لا أتمكن من النوم على صوت هدير طائرة وإن كنت أدرك تماماً أنها مدنية. أذكر "هنادي" و"زينب" و"رامي" و"أحمد". أذكر إلهاً في عيون "فرح" العسلية.
علاقتي بالضاحية، تشبه إلى حدّ كبير علاقتي بطفولتي. جميلة وقاسية تلك العلاقة، يشوبها كثير من الحنين والحذر. لا أفكر بها كثيراً، ولا أحبّذ أن أتحدث عنها كثيراً، لكني كلما زرتها بعد غياب، أشعر بدهشة المرة الأولى في مدينة جديدة.
أشاهد "سي.أن.أن" حين تتحدث عن "منطقة حزب الله الأمنية"، ويثير ذلك فيّ الضحك. أشاهد "المنار" حين يصرخ ذلك الصوت الرجولي العجيب عبر شاشتها ليعلن الضاحية منطقة مغلقة "للعز والكرامة"، وينتابني ما هو أكبر من الضحك، وأعمق من الحزن. أشعر برغبة جامحة في امتلاكها. إنها لي، الضاحية لي أنا، وأنا أعرفها. أعرف كيف أحبها وأكرهها، وكيف أغضب منها ولأجلها، وكيف أتوق إليها وأهرب منها. 
لا تعنيني كل تلك الخرائط الأمنية، والمخاوف الأمنية، و"الفانتازمات الضاحيوية"، ولوائح الممنوعات والمسموحات، والنكات العنصرية، والنفايات الطائفية والطبقية المرشوشة على مداخل ومخارج الضاحية. لا يهمّني لماذا تتحول جرة غاز انفجرت في المبنى المجاور لمنزلي، إلى محاولة اغتيال، لمجرد أن صدف وقوعها في الضاحية.
لا يعنيني كل ذلك. لا يهمني كيف تفكر "غريتّا" في منطقتي، ولا إذا ما قرّرت زيارتها أو عدلت عنها "لأسباب أمنية"، ولا أريد أن أجيبها عن سؤالها الأحمق: "هل تجبَرين على ارتداء التشادور والحجاب عندما تزورين الضاحية؟". سأتركها بعينين زرقاوين واسعتين، تلهثان وراء خبرية عن "الضاحية الأعجوبة"، تعود بها إلى زميلاتها في "نيويورك". لا أريد أن أفكر في كيف "تخاف" صديقتي من أن "تتوه" في الضاحية كلما حاولت أن أرشدها إلى طريق مختصر يمرّ من هناك، وهي الخبيرة في استكشاف المناطق الجديدة. في المرّة المقبلة، سأقترح عليها أن تسلك الجسر الضخم الذي أنشأوه ليربط بين الحازمية وطريق المطار، فلا تضطر إلى العبور في الضاحية.
كلا، ليست الضاحية أجمل المناطق، وليست أنظفها، ولا أكثرها حريّةً وراحةً. لعل كهرباؤها هي الأقصر عمراً في بيروت، ومياهها الأقل نقاء، وشوارعها الأكثر ازدحاماً، وعيون أهلها الأقل تسامحاً، وموقعها الأقل أماناً والأكثر استهدافاً. لعلّها أبعد ما تكون عن أن تشبهَني. أدرك كم أريد لها أن تتغير كي تشبهني وتشبه ما أؤمن به. لكنها لي، أعرفها، أعرف كم أنها لا تشبهني، وكم أني أريد امتلاكها. لا أعرف سببا واضحاً لهذا. لعل كثرة مصائبها تزيدها جاذبية، أو لعلّه ببساطة أني كبرتُ في الضاحية.
في السنة الماضية، عرفت أن "هنادي" و"فرح" تزوجتا، و"أحمد" صار يدخن، و"أم علي" توفيت، وأزيلت بسطة السمك، وأغلقت "مليكة" دكانها الصغير في أسفل بنايتنا مقابل "البنك الفرنسي"، واعتزلت "مسّ سمر" التعليم. مضى وقت طويل على علاقتي بها. مررنا في المراحل المعتادة، من الوقوع في الإعجاب، ثم الحب، فالتعلق، فالرغبة بالانسلاخ، ثم التعايش مع حل وسط، ثم الجنوح نحو الملل، فالصراع، فالنفور، ثم الفتور فالنهاية. تخطيت الضاحية وهي تخطتني. تغيرت معالمها كثيراً، كما تغيرت معالمي. لكن لسبب لا أفهمه جيداً، ما زالت الكتابة عنها تذهب بقلبي.  

السابق
نفقٍ جديد تحت الماء في جعيتا
التالي
البلايين قد تموت هذا الشهر !!