رسالة الى السيد البطريرك

لستُ في معرض الجدل يا سيدي حول موقفكم من رئيسٍ لدولة، او من حزبٍ سياسي، او من صراعٍ مذهبي على قارعة التاريخ، لان كل هؤلاء الى زوال. هذا منطق التاريخ.. بل هذا منطق الـله.

لكنكم في كلامكم الباريسي الاخير حول الخوف وحول الاقلية المسيحية تحديداً، وحول صراع الاكثرية السنية مع الاقليات الاخرى وما اليه؛ كل هذا جعلني أسأل نفسي يا سيدي، سؤالاً فلسفياً ووجودياً كبيراً، حول مولدي في هذا الشرق، او مولد سواي من ابنائه وخاصة المسيحيين منهم. وأيّ غائيةٍ وراء ذلك؟ هل هو محض صدفة، ام وانتم المؤمن العارف، أن للعليّ غايةً وهدفاً وراء ذلك؟

وسألت نفسي أيضاً، لماذا انا اقلية؟ وهل في الحقيقة اني اقلية؟ لان الاقلية في فلسفة السياسة، تعني مجموعة بشرية قليلة العدد ومختلفة في كل شيء عن أكثرية تعيش معها.

هل انا مختلف في كل شيء عن هذه الاكثرية؟ هل اخطأ أجدادي يا سيدي، حين أحيوا لغةً عربيةً كانت خارج القرآن رميما، وأنهضوها من الموت المحتم بعد سنوات عجاف قاسيات من التتريك والجهل؟

وسألت نفسي ايضاً واسألكم يا سيدي، هل انا محتوم ان اعيش في ظلّ توازن الاقليات المتصارعة، أم أن وجودي مرتبط برسالة تقدّم (بضمّ التاء) للعالم نموذجاً عن الحب، وعن القيم والشجاعة حتى الصلب… وعن حضارة الحياة؟

ام أنّ يوحنا بولس الثاني قد أخطأ هو ايضاً، حين وصف لبنان أنه أكبر من بلد، بل هو رسالة، ورسالة حقٍّ وحرية؟ وهذه الحرية النابعة من جذور يسوع، ومن حضور الكنيسة وتعاليم الآباء، والصارخة في وجه الظالم أن "جئتُ الى العالم كي يبصر الذي لا يبصرون، ويعمى الذي يدعون.. انهم يبصرون"؟
 
أم هذا الحق يا سيدي، الذي أكّده وأكد عليه في وجه الظلم ووجه الجوع ووجه القهر ووجه الاسر حتى اسر المرض واسر الخطيئة، هذا الحق الذي دفعه الى القول" أنا الطريق والحق والحياة"؟!

وأسألكم يا سيدي، هل هذا الحق وهذه الحياة والطريق تكفي، ام نحتاج الى شيءٍ آخر؟ واذا كان من مفخرة لنا الا نولد بالصدفة في هذا الشرق، الا يستطيع من قـرّر إعدام الصدفة تلك، "ان يجعل من هذه الحجارة أولاداً لابراهيم"، ولدينا من الحجارة أعداداً واضعافاً ما هو أكثر بكثير من كل اكثريات العالم؟

وأتذكر، علّ الذكرى تنفع، كيف ان شاباً باكستانياً مسلماً، مصاباً بداء التوحّد، قد علّمته أمه يوماً ان ليس هناك مسلم او مسيحي او هندوسي في هذا العالم، وإن وجدوا فكلهم إخوة ومتشابهون، لكنهم يختلفون في شيء واحد أحد، من هو مع الخير، ومن هو مع الشرّ، وتلك فقط فقط.. هي المسألة!

قد تسقط رؤوس، أو تتدحرج صولجانات، لكن الانسان حق، والثورة دعوة حق، ومن حق الانسان أن يسعى الى حريته وخبزه وحقه في الاختيار، ومن حقه ان يقول "لا" اسكاتولوجية حتى، وانتم الاعلم في ذلك. حتى مريم، كانت تملك ذلك الحق وتلك الحرية لتقول للملاك "لا اريد" لو ارادت ذلك! فكيف بالحري بشعوبٍ تصرخ حتى تُبحَّ بــ"لا" في وجه حاكم، او "لا" في وجه جوع، أو "لا" في وجه بطالة، أو "لا"… في وجه ظلمٍ وقتل؟!

عندما دخل الى الناصرة، قرأ لهم من سفر اشعيا النبي قال:"روحُ الربّ عليّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين. وأشفي منكسري القلوب. وأنادي للمأسورين والمضطهدين… بالحرية".
 

السابق
حتى متى يصبر الشعب السوري؟
التالي
أخضر ويابس