الراعي وفهمه لبواطن الأمور

في الوقت الذي تعجّ فيه الساحة الداخلية بالتجاذبات والمناكفات حول أكثر من ملف واستحقاق، ووصول العلاقة بين بعض الأفرقاء السياسيين إلى حد القطيعة التي لا عودة عنها، بفعل التراشق الكلامي من العيار الثقيل الذي تجاوز في بعض الأحيان الخطوط الحمر التي لم يعتد اللبنانيون مشاهدتها في محطات سابقة، فقد قاربت مواقف البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي ملفات داخلية وإقليمية بشكل لافت ستوجب توقف المراقبين عندها بفعل دلالاتها المهمة في هذا الظرف، وكونه أطلقها من العاصمة الفرنسية باريس بعد لقاء جمع البطريرك والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.

وقد شكّل موقف البطريرك المتقدم من مسألة سلاح حزب الله وما يجري في سورية مادة مهمة وُضعت من قبل القريبين والبعيدين على طاولة التحليل، كونها جاءت من مرجعية روحية تحتل مكانة عالية في لبنان والخارج.
فلم يسبق لبطريرك ماروني أن قال الكلام نفسه الذي قاله البطريرك الراعي، إن بشأن سلاح حزب الله أو القضية الفلسطينية، أو حيال الأحداث الجارية في سورية. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على مدى فهم البطريرك الماروني للواقع اللبناني واستشعاره مخاطر ما يجري على الساحة السورية وانعكاس ذلك على لبنان عموماً والمسيحيين في الشرق خصوصاً، وهو ما يعني أن الكنيسة اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه في السابق بشكل يؤكد أن بكركي أصبحت على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين، وأنها تقارب الملفات من منطلق وطني جامع لا من منطلق فئوي أو محاباة لفئة دون أخرى، وهو ما يعطيها دفعاً قوياً باتجاه أن تبقى فوق الصراعات الداخلية التي أقحمها فيها البعض في وقت من الأوقات.
لا شك أن سماع قيادة حزب الله لمواقف البطريرك أثلج قلبها، وهي حكماً تثمن هذه المواقف الصادرة عن رجل يتعاطى بالشأن العام من منطلق وطني جامع بعيداً عن الحسابات الضيقة. وان هذا الموقف سيكون له موقعه المتقدم عند كل الذين يستشعرون مخاطر الفتنة التي تحاك ضد لبنان وسورية، وترمي إلى تفتيت هذين البلدين تلبية لرغبات الدولة العبرية التي تسعى إلى أن يتحول العالم العربي إلى دويلات طائفية ومذهبية متناحرة وتكون هي الأقوى بين هذه الدويلات في المنطقة، وتستطيع من خلال ذلك تنفيذ مشروعها التوسعي في الشرق الأوسط.

وفي رأي مصادر سياسية متابعة أنه سيكون لمواقف البطريرك في باريس والفاتيكان ارتدادات كبيرة على الساحة اللبنانية، حيث أغضبت هذه المواقف بعض السياسيين وخصوصاً قوى الرابع عشر من آذار الذين لم يعودوا يرون في بكركي ملاذهم، ولم تعد مرجعيتها تشكل بالنسبة إليهم المظلة التي يتحركون تحتها في سبيل حماية مشروعهم الذي هو امتداد للمشروع الأميركي في المنطقة. 
ولم تستبعد هذه المصادر أن يتعرض مقام بكركي لحملة سياسية مع قابل الأيام بهدف الضغط على البطريرك للعودة عن مواقفه التي تتعارض ونهج "14 آذار" القائم على محاولة محاصرة السلاح وإشهار العداء لسورية.
غير أن المصادر استبعدت أن تعطي هذه الحملة في حال حصولها أكُلها، كون أن البطريرك الراعي محصن بما فيه الكفاية لجعله قادراً على الثبات على موقفه وعدم الارتهان لدى أحد، ولو كان هذا ممكناً لما كان البطريرك قال ما قاله من على باب رئيس دولة لا تخفي معارضتها لوجود سلاح المقاومة، أو لبقاء النظام السوري الحالي. وهذا يعني أن البطريرك أطلق هذا الموقف عن قناعة وهو كان يدرك أبعاده، وكان يعي أن هناك من سيفاجأ بهذه المواقف.

وانطلاقاً مما تقدم، فإن المصادر تعتبر أن البطريرك بمواقفه وضع الإصبع على الجرح، وأنه تعاطى مع الأمور بنظرة العارف لخلفياتها والمتيقن ان هناك مؤامرة تستهدف العالم العربي، وأن الوجود المسيحي سيكون في عين العاصفة في حال حصول أية متغيرات في المشهد السوري، ولا سيما ان ما يجري في العراق يؤكد صوابية نظرته ويضع مخاوفه في محلها.  

السابق
بصمات واضحة ..
التالي
وداعاً.. ضاحية المخالفات