في وداع قطّة المترجم العربي

قطة الميداني ماتت اليوم. لم يعلنوا الخبر في الراديوهات، أو في الصحف. في الساعة السابعة إلاّ خمس دقائق، وافت المنية القطة المسكينة! عندما قصدته، لترجمة بعض الأوراق إلى اللغة الألمانية، كان البيت يغطُّ في حزن عميق. وبرُها الأبيض كان منتشراً في أرجاء المكان. على الصوفة، وعلى أغطية السرير الذي ينام الميداني عليه.
دعاني الميداني للجلوس على الصوفة، فيما جلس هو على السرير.
"كانت تحب أن تنام قرب رأسي"، قال الميداني بحزن وتأثر شديدين.
في الحقيقة، كنت قد فزت في مرّات سابقة بالتعرف على القطة الفقيدة، بعد أن كسرت زياراتي المتتالية بسبب كثرة الأوراق المطلوب ترجمتها، بعض الحواجز مع الأستاذ الميداني، أو هذا على الأقل ما تراءى لي. يكاد يخال المرء أن الميداني رجل ألماني أصلي، يجيد اللغة العربية بطلاقة بالغة. لكنه في الواقع عربي قح، من بلاد الشام. وقد حدثني مرةً بشيء من الشوق عن عائلته وبيته هناك.
رحت أتأمل في الكتب التي كانت موضوعة على الطاولة أمامه. كتب كثيرة عن علم النفس، من بينها "خمس حالات في التحليل النفسي لفرويد". قلت في نفسي: ترى هل أسعفت كتب علم النفس هذه، وحالات فرويد الخمس، الميداني في فهم وتفسير سلوك زوجته الألمانية وأم أولاده، التي تركته لتذهب مع قس إنغليكاني؟ هذا القس كان يجمعهم مع أسر أخرى ويعرض لهم السبل الحديثة الناجعة في معالجة اضطرابات الحياة الزوجية، وكيفية التغلب على حالات البرودة الجنسية والعاطفية التي قد تشهدها الحياة الزوجية بعد سنين طويلة من الزواج الواحد!". الميداني هو من أخبرني ذلك في مرّة سابقة. أما الآن فكأنه سمع ما كنت أهمس به في سرّي، فقال: "أخونا القس، طبّق نظرياته على زوجتي فذهبت معه وتركتني. أنا أحضرت هذه الكتب، لأنني أردت أن أفهم سبب ما جرى، لكني لم أفهم منها شيئاً. أنا لم أعد بحاجة لها، يمكنك أخذها معك، إن كانت تثير اهتمامك!؟".
لم أرفض العرض الذي وجدته سخياً من رجل يعيش لحظات رهيبة. فقد بدا موت القطة قاسياً ومؤلما عليه، ويوازي ربما في شدته، لحظة تركته زوجته لترحل مع ذاك القس.
– لقد بكيت عليها كأنها كانت ولداً من أولادي.
قال الميداني فيما بدا كأنه يحبس صرّة من الدموع، في بلورّتي عينيه. دلّ على ذلك، البريق اللامع الذي شق غشاءهما، راسماً محورين من إكليل العسل.
لكنه عاد فجأة إلى وقاره، كأنه تدارك أنه يتحدث عن قطة مع شخص شرقي.
سألته عن كيفية حدوث الأمر.
– لم تكن تشتكي من شيء. كانت حركاتها متثاقلة قليلا، ثم فجأة ارتعدت وراحت تهتز، ونترت بضع نترات كأن شيئاً ما كان بداخلها وتحاول نفضه إلى الخارج، وما أن بدا أنها نجحت في ذلك، حتى ارتمت جثة هامدة.
تخيلت أنّ الميداني يريد أن يقول إنه سمعها تتلفظ بكلمات غير مفهومة.
ثم أكمل:
– عندما مرضت منذ سنوات أجريت لها عملية في مستشفى خاص بالحيوانات الأليفة. كلفني ذلك حينها حوالى ألف مارك. لم آسف على المال، بل كنت سعيداً عندما عادت سليمة كما كانت.
أردت أن أبقى أكثر عنده، لكني تذكرت زوجتي التي آثرت البقاء في السيارة، معللّة ذلك بضيق الوقت، وبأنها ستوفر لي الحجة التي سوف تعينني على الخروج بسرعة.. لكنني أعتقد أنها لم ترد الدخول إلى البيت الذي تعيث فيه الكلبة فساداً، بروائحها الكريهة.  
الميداني رجل قصير القامة، بلا كرش يتباهى به في بلاده. صحته معتدلة، لكنها معتلّة. كأنه كان يتّبع نظاماً غذائياً حادّاً. تعدّى سن التقاعد بخطوتين أو ثلاث. لكن آثار هذه السنين كانت متوارية خلف الخصلات السوداء الكثّة، التي كانت تتقدم شعرات السنين البيضاء. كأنها ريشة استنزف صاحبها ما كان فيها من حبر الحياة، ثمّ تركها معلّقة على فروة رأسه كنيشان ملك بائد.
منذ بلوغه الثامنة عشرة من العمر، يعيش ابن الميداني في مدينة فرانكفورت، حيث أنهى دراسته الجامعية وبقي يعمل ويقيم هناك. لكنه كان يعود أحياناً قليلة لزيارة والده. له اسم عربي وملامح ألمانية قوية. ابنة الميداني متزوجة من ألماني وتعيش في مدينة تبعد حوالى ثلاث ساعات.
منذ اللحظة التي لم تتآلف فيها الكلبة التي كانت عند ابنته مع كلب زوجها. تعهد الميداني بتربية الكلبة وحضانتها. وأضحت منذ ذلك الوقت السيدة التي تتقاسم أروقة البيت مع القطة. لكل منهما قطاعه وحدوده التي لا يسمح لأحدٍ أن يخترقها، أو يتجاهل وجودها، غير الميداني نفسه، الذي كان على ما يبدو أيضاً يقتصد من عمليات التنقل ومن الحركات غير الضرورية. كان يبدو وكأنه يناور، بل يجد المتعة في إدارة مراكز تقاسم النفوذ والسلطة الجديدين على أرض المنزل. كان تارةً ينهر الكلبة إن تمادت في مطاردتها للقطة إلى عمق الأراضي الإستراتيجية لهذه الأخيرة. يحمل القطة ليرتفع بها عن أرض المعركة فتصبح في مستوى علويّ يتيح لها أن تلقي نظرات التشفي والتلذذ بمتعة اللوذ بالفرار والانتصار المفاجئ الذي ما كان ليحصل لولا تدخل يد الميداني. فيما يرتفع نباح الكلبة في هذه الأثناء، وهي تحاول أن تثب على الرجل لتطال القطة المرتمية في أحضانه كخلد في جحر أرض أمينة. فيما يميل موقف الميداني تارةً أخرى لصالح الكلبة، مُستخدماً حقه في نقض أمور الواقع إذا ما كانت في غير صالحها.
حرتُ في ما يجب أن أقوله للميداني، لكي أخفف من ألمه وغمّه. أأقول له إن القطط بسبع أرواح كما يقولون!؟ كدت أضحك من الفكرة، وفي السبب الذي دعاها إلى خاطري في هذه اللحظات. لكني سألت عن موضوع آخر أحببت أن أعرفه:
– أين دفنتها؟
– في مقبرة مخصّصة لدفن الحيوانات، أجاب.
– إنها حال الدنيا، كلّنا لها!
قلت للميداني وأنا أستودعه، بينما أفكر في الكلمات المناسبة لمواساته في هذه الحالة، فقاموس التقاليد الذي أحمله على ظهري، لم يلحظ كلمات أو عبارات خاصة بهذه المواقف.
 

السابق
ترو: الجسم الحكومي غير معرض للاهتزاز
التالي
عبد اللطيف الزين: بري صمام امان للبنان