الأسد ورأس الذئب الطائر

في حكايات وأقاصيص الحكمة على ألسنة الحيوانات عند شعوب الشرق، أن الأسد ملك الوحوش في الغابة بلغ من الكبر عتيا، فاستعان في الصيد بذئب وثعلب من رعيته. وقد نجح هذان في اصطياد غزال أتيا به إلى العرين، فسُرّ الأسد العجوز وخاطبهما قائلا: «كيف نقسم هذا المغنم؟»، فسارع الذئب للقول: «القسمة واضحة؛ الرأس والأكتاف لك، والبطن والعجُز لي، والذنب للثعلب!»، فغضب الأسد وأطار رأس الذئب بضربة واحدة من قائمته الأمامية، ثم التفت من جديد إلى الثعلب سائلا عن القسمة، وقال الثعلب متظاهرا بالهدوء: «القسمة واضحة، الرأس والأكتاف لإفطارك، والبطن والدواخل لغدائك، والمؤخرة لعشائك!»، فقال الأسد مندهشا ومسرورا: «من علمك هذه القسمة العادلة؟»، فأجاب الثعلب: «رأس الذئب الطائر!».

لقد مضت ثلاثة أشهر ونيف على الانطباع الناشئ لدى الأجانب والعرب بأن النموذج الليبي أَضر بحركة التغيير العربية لجهتين: أنه بعث الأمل لدى الحكام بأنهم يستطيعون استخدام العنف وإرغام الشعب على الخضوع، والنجاة من العقاب والبقاء في السلطة، وأن فئات شعبية عربية ازداد ترددها إزاء التحرك لأنها لا تحب التدخل الأجنبي بحجة نشر الديمقراطية بعد مَثَلي العراق وليبيا، ولأنها خشيت وتخشى من أنه إذا طال استخدام السلطات للعنف فقد ييأس المتظاهرون ويلجأون هم أنفسهم لاستخدام العنف أيضا فتنشب الحرب الأهلية!.. وقد كان بعض هذه الأفكار حقيقيا ليس في ليبيا فقط؛ بل في اليمن وسوريا أيضا، وربما في بلدان عربية أخرى. بيد أن شيئا من ذلك ما عاد واردا الآن، وبخاصة بقاء الأنظمة بعد حدوث الثورة!.. فقد سقط بن علي، وسقط مبارك، وسقط الآن القذافي.

ويتبين من هذه السقطات المتتابعة أن أخطار حصول نزاع داخلي وشبه حروب أهلية، تعود دائما إلى مساعي الأنظمة والرؤساء للبقاء. فها هو النظام السوري يهدد إسرائيل بعد طول تنسيق إشعارا للسوريين بالخطر.. وها هو يتهم المتظاهرين بأنهم مسلحون أو بعضهم، وأنهم يشكلون خطرا على الأمن وعلى العلاقات بين الطوائف.. وها هو يمارس الإذلال بطرائق مقذعة، لكي يخمد المظاهرات تحت وطأة القمع، أو يرد المتظاهرون بالعنف أيضا، فيخشى المحافظون والأقليات على أنفسهم وعلى الاستقرار. ونحن نعلم أن الرئيس مبارك حاول ذلك مع المسيحيين، والرئيس صالح حاول ذلك من خلال «القاعدة» باليمن، أي تخويف المسيحيين من التغيير لأن الذين سيأتون بعدهما سيكونون من المتظاهرين الإسلاميين! ولا يبدو شيء من ذلك صحيحا اليوم أو الآن وفي سوريا بالذات. فالمتظاهرون في سوادهم الأعظم ليست لهم انتماءات حزبية أو دينية معينة، وشعاراتهم تدور حول الحرية والكرامة والعدالة ورفض الظلم والإذلال والاستبداد. وقد تعرضوا وتعرضت أسرهم على مدى خمسة أشهر ونيف لأبشع أشكال العنف والإرهاب والقتل والإذلال، فما حادوا عن سلميتهم ولا رفعوا شعارا طائفيا أو إثنيا.

وقد استمعنا إلى المنشقين السياسيين والعسكريين فما سمعنا كلمة ذات منحى مذهبي أو طائفي، وإنما يقال دائما: «لا نريد استعمال السلاح ضد المواطنين المسالمين!»، وما دام هذا الوعي سائدا، فلن يستطيع النظام تمديد عمره اعتمادا على إشاعة الفتن والأوهام. وهي أَوهام أو سطحيات حظيت وتحظى بالفعل باهتمامات رجال دين كبار في سوريا ولبنان. فبطريرك الروم الأرثوذكس إغناطيوس هزيم، ومقره دمشق، قال في لبنان إن الاستقرار مهم، وإنه يعرف الرئيس الأسد، وهو رب أسرة محب ومحترم ومتحضر، ولا يمكن أن يرتكب ما يتهم به، كأنما الثلاثة آلاف سوري المقتولون ليست عندهم أُسَر، ولا يتمتعون بالقدرة على الإحساس بالحياة والكرامة.

والخوف من الفتنة والانقسام بضاعة مزجاة يستخدمها رجال الدين المسلمون منذ آماد، وقد أسرف في استخدامها الأمين العام لحزب الله في السنوات الأخيرة، ورجال الدين السوريون الموالون الموجودون الآن في وسائل الإعلام، وفي الثورات العربية بالذات. إنما يخشى هؤلاء جميعا حضور الجمهور العربي الأكثري، الذي غاب طوال العقود الماضية تحت وطأة الإرهاب والعسف الداخلي والغزو الأميركي، فحل محله أقلويو الإسلاميين، وأقلويو الأقليات الدينية والإثنية والاجتماعية والسياسية، متشاركين في ذلك مع الحكام ومع الغزاة ومع الإيرانيين والإسرائيليين وسائر الذين تداعوا علينا كتداعي الأكلة على القصعة. ومع طول المدة نسبيا اعتبر هؤلاء جميعا أن غياب الجمهور طبيعي وليس استثناء، وأنه من الطبيعي أيضا أن يتشاركوا هم جميعا في السطوة والسيطرة على مجالنا الأرضي والجوي والبحري، وأن يضيقوا علينا أنفاسنا حتى لا نفكر في التغيير، فإن فكرنا فالاعتقال أو القتل من جانب السلطات، والصمت من جانب المشاركين مضاربة، والذين ما ارتفعت أصواتهم إلا عندما نزل الجمهور إلى الشارع من أجل تغيير نظامه السياسي الخالد المخلد كأنما هو موروث أبا عن جد بحقوق الدم الأزرق!

ما أكثر الفرص التي حظي بها النظام السوري في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصة في الشهور الستة الأخيرة بعد قيام الثورة عليه!.. لقد تبين أن خيمة النظام المضروبة على آل الأسد تمتد حبالها المثبتة بين إسرائيل وإيران ولبنان والعراق وتركيا والولايات المتحدة ولا ندري أين وأين؟ وقد بدأت هذه الحبال تتقطع تحت وطأة القتل والاعتقال والتشريد. وما بقي في النهاية غير الحبل الإيراني، ومن تستطيع إيران تجنيده في المنطقة العربية للالتحاق بشبيحة النظام السوري في الدفاع عنه، وحزّروا بأي مسوغ: مسوغ الممانعة والمقاومة، ثم مسوغ الخوف من طائفية الأكثرية، وأخيرا مسوغ الحفاظ على الوحدة والاستقرار!

ونحن على ثقة – كما سبق القول – بأن الجمهور الثائر هو المعني الأول بالوحدة والاستقرار والممانعة، لأنه لا يمكن أن يكون هناك أحرص على سوريا وحدة واستقلالا وحرية من شعبها. والمعني الثاني بالملف السوري هو الرأي العام العربي، الذي عبّر بكل السبل عن تضامنه مع الشعب السوري. وقد كانت لدى السوريين الثائرين ولدى العرب الآخرين مآخذ كثيرة على العرب دولا وجامعة، لعدم الاهتمام والضغط على الرئيس السوري وزبانيته. لكن الجامعة العربية تجاوزت تلك المرحلة في اجتماعها الشهير الذي صدرت عنه مبادرة من 13 بندا أراد أن يبعث بها مع الأمين العام للجامعة للعرض على الرئيس الأسد. والمبادرة غير مرضية للشعب السوري، لأنها تُبقي الأسد إلى نهاية فترته الرئاسية الثانية عام 2014، لكنها تقول بكل الإصلاحات الأخرى الداخلة في برامج المعارضة. لكن الأسد وبعد عشرة أيام من رفض المبادرة، عاد لرفض استقبال أمين عام الجامعة، إما لأن بنود المبادرة أعلنت قبل استقبال الأسد له، وإما لأن أمين عام الجامعة استقبل وفدا من المعارضين السوريين بالقاهرة!

لدى الأسد فرصة واحدة أخيرة ودرس للاعتبار. الفرصة هي مبادرة الجامعة العربية، وهي تقول بوقف العنف وإجراء تحول ديمقراطي تدريجي ينتهي بزواله مع نظامه. وأما الدرس فهو سقوطه بالضربة القاضية من جانب شعبه المقهور والمقتول، كما سقط القذافي ومبارك وبن علي، لأن تلك هي القسمة العادلة!

السابق
المطلوب…خطة وطن!
التالي
الشراكة التي نحن بحاجة إليها