آخر أسرار القذافي..

كان البحر ينشق بسكون أمام باخرة الشحن الصغيرة. كأنه يحاول استبقاءها. كأن مياه طرابلس وليلها أدركا أن بعدها لن يكون البحر كما كان، ولا الليل، ولا طرابلس ولا ما كان يوماً… ليبيا. لم تكن تلك «الخردة» العائمة مؤهلة حتى للسفر بحراً ربما، لكنها تحولت حكماً آخر سبل الهروب من «الثورة» الى الحرية. لم تكن تتسع على «المانيفست» إلا لعشرة أشخاص. غير أن الذين باتوا على متنها بعد نحو سبعين ساعة من الانتظار، 56 مسافراً ـــــ هارباً. بينهم تلك الحسناء القابعة بصمت في الزاوية. تحاصرها الهمسات: إنها «صديقة» سيف الإسلام. بالقرب منها مجموعة من «الثوار». ينظرون بحذر الى كل من هم حولهم. يفترض أن يكونوا من المنتصرين ومحرري العاصمة قبل يومين. ومع ذلك يجري ترحيلهم سراً وتحت جنح الظلام. السبب: هؤلاء من مجموعة ارتكبت جرائم مشهودة، وقد تكون عرضة لملاحقة القضاء الدولي، ما استوجب «تنظيفهم» قبل أن يطلع ضوء «ليبيا الثورة».

مفاجأة أخرى بين الركاب: سيدة لبنانية في العقد السادس من عمرها. على وجهها تعب أشهر الحرب، وفي عينيها هروب من الوجوه، يسابق الهرب من ليبيا القديمة الساقطة. تحمل أسرار وجودها مع تلك المجموعة، وتبحث عن مقعد شاغر بين «السياح» الستة والأربعين الفائضين عن عدد المقاعد. وحده ذلك الصحافي الأوروبي، حفظ بعضاً من كياسة «الجنتلمان». أعطاها مقعده، وطرق في جانب من الجسر، يدون آخر ملاحظاته عن المغامرة.
في طرابلس الغرب، يروي الصحافي العابر لبيروت في «استراحة محارب»، لم تكن ثمة ثورة، ولا انقلاب شعبي، ولا حتى انتفاضة. نظام القذافي ظل حتى فجر تلك الليلة التاريخية يحوز تأييد أكثرية الليبيين. في الأول من تموز، دعا القذافي إلى النزول الى الشارع دعماً له. أكثر من مليون ونصف مليون ليبي لبوا الدعوة في العاصمة، من أصل مليوني شخص ونيف، يمثّلون كل سكانها. كنا أقل من خمسين صحافياً شاهداً على الحدث، لكن صورة واحدة للتظاهرة لم تظهر في أي وسيلة إعلامية. في المساء، كنا جميعاً كعادتنا متحلقين مجموعات في ردهات فندق «هكسوس». كانت النظرات تتحاور بيننا بحثاً عن أسباب عجزنا جميعاً عن تأدية عملنا الصحافي. وكانت الأجوبة تتوالى بصمت العيون: هذا لم يرسل صوره الى المحطة، بل الى جهازه الاستخباري. ذاك أرسلها، لكن إدارة محطته حظرت بثها. ذلك مكلف بتصويرنا نحن، فلم يعبأ بالتظاهرة أصلاً. الرابع مهمته رصد من يدخل الى الفندق ومن يخرج من طوابقة السفلية خصوصاً. آخر همه ما يحصل خارجه أو في الشارع.

وما يكتنزه الهكسوس في تلك الأيام لا يخلو من أهمية ونفيس السبق الصحافي. موسى إبراهيم، الناطق باسم نظام القذافي، يمضي معظم أوقاته هنا. يعقد مؤتمراته الصحافية في فندق «كورنثيا»، ثم يعود فوراً الى هذا المقر المحصن بلواقط الساتلايت. مع بداية عملية 22 آب، أُضيفت وجوه جديدة الى «ركاب» الفندق. حركة غريبة وفجائية ودائمة. قلة قليلة من الصحافيين عرفت أن سيف الإسلام بات يتردد الى الطابق السفلي. هناك روى لاثنين أو ثلاثة، اعتقاده بأن الغرب لن يسمح لهم بالوصول الى أيلول. ليست مسألة رمزية إسقاط والده قبل «الفاتح من سبتمبر»، بل ضرورة الانتهاء منهم قبل موعد الجمعية العمومية للأمم المتحدة. كان النظام قد أعد فريق عمل من قانونيين دوليين لنقل المواجهة إلى نيويورك. جاءت الإشارة الأولى باستئخار موعد كلمة ليبيا عشرة أيام. الباقي لم يتأخر. ليلة 22، نام الطرابلسيون على عادتهم. قبل أن يستيقظوا فجراً على أسراب «أباتشي» و«بريدايتور». القاعدة كانت إطلاق النار على كل ما يتحرك في المدينة المذعورة. في ساعات قليلة، توقفت مستشفيات العاصمة عن التعداد، بعدما أتخمت بثلاثة آلاف قتيل وخمسة آلاف جريح بإصابات بالغة. القطريون نزلوا بجيشهم «المحرر»، تمهيداً لتمركز «أفريكوم». تماماً كما قواعد الخليج.

الذين سكنوا الطابق السفلي من «هكسوس»، توقعوا الأمر قبل يومين. يقولون: على مدى أشهر الحرب الستة، منذ بداية المعارك في 19 آذار، كان في تلك الأروقة مفاوضان أميركيان. أحدهما عضو سابق في الكونغرس، وآخر عسكري متقاعد. لم يفارقا هاتفيهما «ثريا» لحظة. كل منهما على خط. لم يتقاطعا في طرابلس، ولا في واشنطن. في الأيام الأخيرة، التقيا سيف الإسلام، اكثر مما التقيا بعضهما بعضاً في الرواق، مدعيَين عدم المعرفة. لم يتفق أي منهما مع الابن. فسافرا باكراً، واختفى هو…
حين تبتعد باخرة الشحن عن الرصيف، يسأل بعض الركاب عن مصير القذافي: كيف سيبحثون عنه وأين سيجدونه وماذا سيفعلون به؟ وحده الصحافي المدون يدرك أن «المحتلين» هاجسهم الآن، شخص آخر. زميل صحافي. يوسف شاكر هو المطلوب الرقم واحد من جانب الاحتلال. أما السبب، فأسرار كثيرة تنتظر أياماً أخرى للكتابة…

السابق
إعلان لجمال المرأة أم دعوة لضَربها؟
التالي
الاحتلال يواصل شق الطرق في العباسية