مَن الذي سقط…ومَن القادم؟

ليس هناك أعظم من التحرر في تاريخ الشعوب، سواء كان التحرر من استعمار خارجي أو من دكتاتور محلي. الحرية تفتح طريق العمل للإنسان الواعي والمدرك لما يريد لبناء حياته بالأسلوب الذي يرتأيه. وكذلك الحال بالنسبة للحرية الاجتماعية التي تفتح الطريق للمجتمع الواعي لبناء مؤسساته على أسس واقعية صلدة توفر العيش الكريم للجميع.
الحرية لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة بالوعي الاجتماعي للمسؤولية. منذ فتحنا عيوننا ودخلنا المدارس ونحن ننشد للحرية التي لم نعرف عنها شيء في الواقع، سوى حرية الحاكم في اختيار ما يريد. أما المجتمع فإنه يعشق الأدلجة التي أدرك الحُكام سِرها لكونهم من ذات المجتمع لذا تم تخصيص أجهزة الإعلام والكتب الدراسية لتُشبع الشعب الموعظة الحسنة والمبادئ (والتي هي المبادئ الإيديولوجية للسلطة) التي لا يُعلى عليها وليس هناك أقل من التضحية في سبيلها.

لقد كانت ثوراتنا مؤدلجة تتغلف بمبادئ سامية وأهداف شاعرية وضمن فورة الثورات يظهر البطل المنقذ الذي لم يأت من مجرة أخرى بل أفرزه المجتمع ذاته. ومع التطبيق العملي نجد أن البطل المنقذ ينتمي إلى عائلة بطلة مناضلة وإلى قرية بطلة مناضلة وغير ذلك من انتماءات لابد وأن تجني ربحها من تسلق البطل لهرم السلطة الثورية. وهذا المنطق لم يتم استيراده كذلك من مجرات أخرى بل هو من الموروث الاجتماعي. ويُلام البطل المنقذ على تصرفاته وتُقام ثورة ضده من أجل الجياع والمحرومين، ليتسلق السلطة بطل مُنقذ آخر يكرر حكاية البطولة ويأخذ الثمن من مجتمعه.
أين الخلل، هل السُلطة مَفسدة أم أن المجتمع ذاته جعلها هكذا، أم أن مفهوم الدولة المعاصرة أكبر من أن تستوعبه هذه المجتمعات التي طحنها الزمن من سجنه لقرون بعيداً عن التربية والتكوين الطبيعيين؟ إن المجتمعات العربية والإسلامية على اختلافها تعاني ومنذ عام 655 ميلادية ولحد وقتنا الحاضر من ظاهرة الصراع الدموي بين المجتمع والسلطة. علما بأن كلاهما من ذات البيئة الاجتماعية ويتم دائما اعتبار الحاكم المدحور عميلاً للاستعمار والصهيونية وسارق وذات الحاكم كان في بداية عهده البطل المُنقذ الذي هَتفت له الملايين.

لقد عاش العرب ثورات وتقلبات مختلفة منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وحتى الآن. كل ما كان يحدث هو تبديل حاكم أو سلطة ويبقى النمط الفكري السائد ذاته من دون تغيير وتبقى الأخطاء من دون حلول. لو قارننا التُهم التي قادت إلى مقتل الخليفة عثمان (عام 655 ميلادية) بالتهم التي توجه للحكام العرب الحاليين لوجدناها متشابهة إلى حد ما. لمدة 1356 عام ولم تتمكن هذه المجتمعات من إيجاد إصلاح فكري يطور منظومة الحكم. وهكذا استمر الركود الفكري والاجتماعي حتى يومنا هذا. لقد قادت الثورة الفرنسية رغم دمويتها ليس لإسقاط الملكية فحسب بل لمحاكمة فكر ساد وكان السبب في الكثير من الكوارث وهكذا قادت الثورة وبمراحل تجريبية مختلفة إلى حركات فكرية وتنويرية في أوروبا. الثورة لذاتها لا تعني شيئاً أبداً.
التحديث الفكري ودعواته في مجتمعات الشرق الأوسط العربية والإسلامية لا جذور اجتماعية لها ومرفوضة من الأغلبية الاجتماعية (إذا كانت هذه الأغلبية على علم بها). إنها ليست أكثر من ترف فكري للنخبة المثقفة. ولكن التحولات الاجتماعية والتحديث أكبر وأكبر من القضاء على حاكم أو أسرة حاكمة. من أبرز ما تدعى بتجارب التحديث التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط والتي يقود التحديث فيها المسلمون هي تجربة إيران وتركيا. لقد حاول شاه إيران بناء دولة عصرية حسب تَصوره الساذج ولكن بناءه كان سطحيا لم يصل إلى جذور المجتمعات الإيرانية التي أكلها الزمن لقرون لذا كانت إزالته سهلة من قبل تلك المجتمعات. والذي حل محله لا يملك تصوراً علمياً عن الماضي وماذا يجب أن ُيؤسس للحاضر والمستقبل بعد الثورة. وكذلك الحال مع أتاتورك الذي حاول بناء دولة عصرية بحماية العسكر ولكن هو الآخر كان بناؤه سطحياً وقد لا تحتاج سوى كيلومترات عدة خارج أي مدينة تركية كبيرة أو تدخل الأزقة المظلمة لتجد الدولة العثمانية ما تزال متربعة في أفكار وحياة المجتمع التركي الذي ربما هو الآخر في طريقه إلى دولة على النمط الإيراني.
إن ما كان من تقلبات اجتماعية خطرة عاشتها هذه المجتمعات لا يقع فيما يدعى علمياً بالتجريب أو طريقة الصح والخطأ المعتمدة في الدراسات العلمية أحياناً. لأنه ليس هناك أي استفادة من التجارب السابقة والسبب أن كل الثورات تأتي مندفعة متعالية على ما سبق وليست دَارسة ونَاقدة ومُحللة لفترة مضت.
البناء السطحي أو قشرة المعاصرة التي تتغلف بها المجتمعات العربية الإسلامية لا تعكس أبداً الواقع الحقيقي للمجتمع. عمق التراجع الحضاري لا يمكن إزالته بالمكياج المعاصر ولابد وأن يتهاوى ليظهر الواقع المرير.
منذ عام 2003 وبعد سقوط النظام في بغداد أخذت الأنظمة العربية بالتساقط واحدا تلو الآخر. وكالعادة تتم تحميل مسؤولية الكوارث للهرم المهزوم السارق المجرم، ولكن لنتسائل مَن الذي سقط؟ أو من هذا الذي يسقط دائما ببرك من دماء وانهيارات اقتصادية، هل سقط صدام حسين وزين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي؟ إن من سقط ليس إلا رمزا من رموز الفكر البالي الذي توسل بالتحديث ليصطبغ به. لقد سقط ولي الأمر وعصمته. لقد سقط جانب من الفكر الجمعي الذي يُعظم الحاكم ويركع له. لقد سقطت مرحلة صغيرة من مراحل التخلف حاولت التحديث السطحي. لقد سقطت جوانب تعارضت مع المعاصرة ولكن لم يسقط الفكر المتراجع بعد، وهذه هي المُشكلة الكبرى.
.
إن من وقف ويقف في أقفاص الاتهام ليسوا بأشخاص بل نماذج للفكر الأبوي والقَبَلي… نماذج خلقها المجتمع ذاته وضمن تقاليده ومفاهيمه. لقد فعل هؤلاء القادة ما فعلوا دون أن تكون هناك ردة فعل جماعية أو نقد أو رفض جماعي وقتها، القبول الجمعي بما فعلوا يصب في قبول ولي الأمر على علته ومهما كان. لذا من وقف ويقف في قفص الاتهام هم نماذج للتخلف العربي الإسلامي الذي استمر قروناً، نماذج لموروث اجتماعي مزيج عصي على التحديث. ولكن هل سيتمكن المُجتمع المُنتفض من أن يُدرك أنه لا يُحارب إلا فِكرهُ وتقاليدهُ، وليس الحَاكم الشخص؟

إن من سيأتي فردا كان أو حزبا لا يُمكنه أن يتجاوز الموروث الاجتماعي المقدس الذي تربى عليه وتشربت خلاياه به. إن من سيأتي هو من ذات الأرومة ومن التربية الفكرية ذاتها، ولكي يحكم لابد وأن يكون ولياً للأمر مفروض الطاعة والاحترام، ولابد وأن يقر بأن الأقربون أولى بالمعروف ولابد من أن يَستر من أخطأ ليستره الله، ولابد من أن يأخذ بيد الرعية، بمعنى آخر لابد وأن يكون ظل الله في الأرض، وإن لم يكن كذلك فسوف تَبول عليه الثعالبُ. الفكر الجمعي الموروث يقر بأن:

«إذا لم تكن ذئبا على الناس اجردُ كثير الأذى بالت عليك الثعالب» والبطل الاجتماعي أكبر من أن تبول عليه الثعالب ويهان. إنها ثقافة عنتر وأبو زيد الهلالي التي لم يستطع المجتمع منها انفكاكاً عبر العصور.
مجتمعات لا تستطيع أن تطور الفكر الاجتماعي من خلال ثوراتها المتتابعة لا يمكنها أن تتطور وستبقى تعيش ثورات دموية ومشاكل من دون حل، إن الموروث الاجتماعي المتراجع والمتجذر أكثر عمقاً من الأوراق الخضراء السطحية. من دون ثورات فكرية اجتماعية وليست نخبوية لا ولن تنجح أي ثورة… كل ما سيحدث هو أن يتبدل الحاكم أو الحزب وليس أكثر

السابق
كرم ضحيّة جديدة على مذبح الجنرال
التالي
تقرير “بالمر”..كشف المستور