تقرير “بالمر”..كشف المستور

ظل المستضعفون في الأرض ومنهم العرب -على الأقل في صراعهم مع إسرائيل- ينظرون إلى الأمم المتحدة باعتبارها -وهي المنظمة العالمية المنوط بها حفظ السلم والأمن الدوليين- منظمة عالمية ضعيفة مهيضة الجناح، إذ أنها في كافة الاختبارات التي تعرضت لها في هذا الصدد لم تكن تملك اتخاذ موقف مع "الحق"، ناهيك عن وضعه موضع التنفيذ، اللهم إلا إذا كان "القوي" يؤيد هذا الموقف ويستفيد منه، وهكذا ظلت الأمم المتحدة في عرف بلدان الجنوب عاجزة عن أن تقوم بدورها في هذا الشأن، ناهيك عن أن يلتزم دورها بمعايير الحق والعدل، وحتى في الحالات القليلة التي تجاسرت فيها وسمحت لها الظروف بأن تتخذ قرارات "هينة" لمواجهة خروقات فاضحة للعدالة، كما في جريمة إسرائيل ضد مخيم جنين في الضفة الغربية الفلسطينية (2002) التي صدر فيها عن مجلس الأمن قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، أو في مذبحة قانا في عام 1996 التي صدر فيها عن الأمم المتحدة تقرير يفضح السلوك الإسرائيلي، فإن هذه القرارات لم تجد طريقها إلى حيز التنفيذ بسبب الصلف الإسرائيلي والدعم الأميركي له، أو ارتدت إلى نحور من وافق على إصدارها على هذا النحو كما في حرمان بطرس غالي من مدة ثانية كأمين عام للأمم المتحدة بسبب عدم استجابته للضغوط الأميركية في اتجاه عدم إعلان التقرير، مع أنه كان يتمتع بتأييد باقي أعضاء مجلس الأمن كافة وعددهم أربع عشرة دولة.

ويشير ما سبق إلى عامل بالغ الأهمية في تفسير عجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها كما ينبغي، وهو النفوذ الأميركي في المنظمة الدولية الذي يصل إلى حد التحكم، كما هو الحال في مجلس الأمن الذي تتمتع فيه خمس دول دائمة العضوية، منها الولايات المتحدة، بحق الاعتراض القادر على منع صدور أي قرار عن المجلس مهما كان هيناً. وفي مرحلة سابقة في ظل النظام العالمي ثنائي القطبية كان الصراع الأميركي- السوفييتي، وتمتع طرفيه بحق الاعتراض، سبباً في شلل مجلس الأمن وعجزه عن اتخاذ ما يتعين عليه اتخاذه من قرارات، وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي وتبنت وريثته الأساسية روسيا سياسة تابعة للسياسة الأميركية انطلق مجلس الأمن في العمل وإصدار القرارات، ولكن وفقاً للمصالح الأميركية قبل كل شيء، وهكذا قُدر للأمم المتحدة عامة ومجلس الأمن خاصة أن تبعد عن العدالة في الحالتين: بالشلل في حالة التوازن الأميركي- السوفييتي، والتحيز في حالة الانفراد الأميركي بالدور القيادي في النظام العالمي.

ولكن ما حدث منذ أيام جديد وخطير بكل معنى الكلمة، وهو صدور -أو بالأحرى تسريب مضمون- تقرير الأمم المتحدة عن حادث الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية مرمرة الذي أدى إلى مقتل تسعة أتراك، وهو التقرير المعروف باسم تقرير لجنة بالمر، نسبة لرئيس وزراء نيوزيلندا السابق الذي تولى رئاسة لجنة التقصي الأممية. وأول ملاحظة على هذا التقرير المشين -أو على الأقل ما سُرب منه- أنه تجاهل تماماً أن الاعتداء الإسرائيلي على السفينة التركية قد تم في المياه الدولية، وهو ما يعني أن إسرائيل أصبح لها مسوغ لممارسة أعمال "البلطجة" البحرية دون رادع قانوني. وأما الملاحظة الثانية فهي أخطر، لأن التقرير اعتبر الحصار على غزة "قانونيّاً" من وجهة نظر القانون الدولي بالنظر إلى أن "أمن إسرائيل يواجه تهديداً حقيقيّاً من جانب المجموعات المقاتلة في غزة".

وهكذا اعتبر التقرير أن الحصار فُرض لمواجهة تهديد أمني بهدف منع إدخال الأسلحة إلى غزة عبر البحر، "وتطبيقه يتماشى مع متطلبات القانون الدولي"، متجاهلاً بذلك أن غزة تعتبر من الناحية القانونية حتى الآن أرضاً فلسطينية واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإن الحصار مبني أصلاً على باطل، كما أن التقرير تجاهل كذلك أنه كان بمقدور الأسطول الإسرائيلي أن يقوم بتفتيش سفينة أسطول الحرية بدلاً من مهاجمتها للتأكد من أنها تحمل مساعدات إنسانية وليست عسكرية لأهل غزة، وخاصة بالنظر إلى أن كافة المنظمات المعنية في الساحة الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة نفسها قد اعتبرت الحصار عملاً غير إنساني على أقل تقدير. ولعل هذا هو بالتحديد ما دفع الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة إلى التصريح بأن موقف الأخير "واضح في دعوته إلى رفع الحصار عن غزة"، فكيف يصدر عن الأمم المتحدة تقرير يناقض مواقف محددة منسوبة لأجهزتها العاملة وكبار المسؤولين فيها؟ وكان الأمر الوحيد الذي تفضل به التقرير علينا هو أن "قرار إسرائيل بالسيطرة على السفن بمثل هذه القوة بعيداً عن منطقة الحصار ومن دون تحذير مسبق مباشرة قبل الإنزال كان مفرطاً ومبالغاً فيه". ولم ينس التقرير مع ذلك كي يخفف من هذا الموقف الضعيف أصلاً أن يجد مبرراً غير مباشر للسلوك الإسرائيلي بنصه على أن أسطول الحرية "تصرف بطريقة متهورة عندما حاول كسر الحصار البحري المفروض على قطاع غزة"، كما أن التقرير اعتبر أن إبداء "الأسف" ودفع التعويضات يكفيان لتبرئة ساحة إسرائيل من هذا السلوك الهمجي.

وإزاء تقرير كهذا صبرت تركيا طويلاً على صدوره عله يرد إليها ولو بعض حقها كان طبيعيّاً أن يكون هناك رد فعل تركي قوي، وقد تمثل رد الفعل هذا أولاً في خفض التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل إلى مستوى سكرتير ثان، وهو ما يعني من الناحية العملية طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة ومعه كل الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين تزيد درجتهم على سكرتير ثان، وكذلك خفض مستوى البعثة الدبلوماسية التركية في تل أبيب بالكيفية نفسها. ثم تمثل رد الفعل التركي ثانيّاً في تعليق الاتفاقات العسكرية الثنائية مع إسرائيل، التي تشير التقارير إلى أنها الرابح الأول منها ماديّاً واستراتيجيّاً، وذلك بالإضافة إلى تدابير لم يحددها وزير الخارجية التركي بشأن حرية الملاحة في المياه التركية في البحر المتوسط، في إشارة إلى احتمال عرقلة مرور السفن الإسرائيلية، وأخيراً وليس آخراً ملاحقة إسرائيل قضائيّاً بشأن قانونية الحصار على قطاع غزة، وذلك عن طريق طلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في هذا الصدد.

ولاشك أن لهذه التطورات دلالات وتداعيات بالغة الأهمية. وأولى هذه الدلالات أن الأمم المتحدة بتقرير كهذا ستتحول من قوة معنوية لحفظ الأمن والسلم الدوليين إلى مصدر عدم استقرار كون الانتهاك الفاضح للعدالة في التقرير سوف يفضي إلى إجراءات مضادة كما فعلت تركيا، وهكذا يضاف انتهاك مبادئ القانون الدولي إلى التحيز السياسي الذي ألفناه طويلاً في مواقف الأمم المتحدة وبالذات مجلس الأمن تجاه قضية الصراع العربي-الإسرائيلي. ومن ناحية ثانية فإن مؤشرات نهاية هذا الكيان العنصري البغيض تتزايد يوماً بعد يوم، فإسرائيل تتحدى الجميع بفضل الدعم الأميركي، وهي تخسر حتى الدول العربية التي تقيم علاقة سلام تعاقدي معها وعلى رأسها مصر، التي لم يعد الرأي العام فيها مستعدّاً لقبول المزيد من الغطرسة الإسرائيلية، كتلك التي أفضت إلى استشهاد خمسة من رجال الأمن المصريين مؤخراً على الحدود مع إسرائيل. أما العرب فقد وضعتهم تركيا في مأزق حقيقي، لأن أحداً من الدول العربية لن يستطيع الاعتراض على الإجراءات التركية بطبيعة الحال، وستجد الدول العربية نفسها ومعها الجامعة العربية تسير خلف الراية التركية بشكل أو بآخر، وتلك قضية أخرى قد تسمح الظروف بالعودة لها لاحقاً.

السابق
مَن الذي سقط…ومَن القادم؟
التالي
اللواء: باسيل يُجهِض المقاربات الكهربائية بإثارة النعرات المناطقية والطائفية