الحريريّة والجيش..قصة نزاع مزمن

كلام النائب الحريري، خالد الضاهر، ومعه زملاء ومسؤولون كثر من فريقه، عن المؤسسة العسكرية، أعاد فتح الدفاتر العتيقة بين الطرفين.
أيام رفيق الحريري كانت شهيرة قصة سفره الثابت والمصادف كل سنة عشية الأول من آب، بحيث اعتاد الغياب عن احتفال عيد الجيش. والعلاقة الشهيرة بتوتّرها بينه وبين اليرزة لم تقف عند حدود الشكليات والأعياد، بل تعدّتها مراراً إلى الصراع المفتوح: مرة رفض توقيع مرسوم ترقيات الضباط، ومرة أخرى رفض «خازنداره» فؤاد السنيورة صرف رواتب العسكريين، حتى طوّقته قوة من الجيش داخل وزارته. ودوماً كان إعلام قريطم يسوّق لنظرية الصراع بين مشروعين: مشروع الدولة المدنية، أي الحريري، ومشروع الدولة الأمنية، أي العسكر.
وقد يسارع البعض إلى القول إن كل هذا كان في الزمن السوري، يوم كانت عنجر هي الآمر «للنظام الأمني المشترك»، ما يبرر الصراع. لكن ما يغفل عن هذا التبرير أن الحريري كان يومها أكثر سوريّة من أي «سوري»، بدءاً بتباهيه بأدائه دور وزير خارجية دمشق بامتياز، وصولاً إلى نهج تسليم «مفتاح بيروت» الشهير، ما لم يفعله أي عسكري يومها، باستثناء تكريم ميشال سليمان لرستم غزالة عند انسحابه، قبل أن ينزع صورة بشار الأسد من مكتبه. الصراع بهذه الحدّة كان إذاً تحت السقف السوري، ما يوحي فعلاً بوجود مشروعين. فهل من أسباب فعلية كامنة خلف هذا التضاد؟

على المستوى الشخصي، تقفز إلى الواجهة فوراً تلك الثنائية السيكولوجية لدى الطرفين. بين الآتي من قطاع المال والأعمال، والآتي من صفوف العسكر: الأول يحيط به مؤتمرون موظفون، الآخر حوله مؤتمرون، لكنهم مقاتلون. الأول من طبيعة عمله قبض العمولة، الآخر في صلب مهمته صدّ العمالة. الأول مناور، الثاني مباشر. الأول صاخب، الثاني صامت. الأول قاموسه ربح وخسارة، الثاني حياته نصر أو هزيمة. الأول آتٍ من مؤسسة يملكها ويورثها ويجيّرها لابنه أو عائلته أو أقرباء أو أنسباء، الثاني يعيش في مؤسسة تختزل الوطن، فلا يملكها، ولا يورث صلاحياتها ولا يجيّر نفوذها إلى ابن أو ابنة أو أي كان، أو هكذا يفترض. كل هذا يخلق طبيعتين مختلفتين حتى التناقض بين الطرفين.
لكن ثمة أسباب أكثر عمقاً لهذا الصراع، في آفاقه اللبنانية النظامية والأبعد:

سبب أول هو أن المؤسسة العسكرية لا يزال على رأسها ماروني. وهو ما كان يخلق ربما في قريطم انطباعاً بأن هذا «القائد» ــــ مهما كان اسمه ــــ خصم محتمل على زعامة الدولة والسلطة والحكم. حتى ولو لم يكن مشروع مرشح رئاسي. مجرد وجوده في موقع سلطة خارجة عن سلطة قريطم، يبدو للحريرية كأنه خرق لدستور الطائف، كما فهمته الحريرية ومارسته. أي الدستور الذي يجعل من سيّد السرايا الحاكم المطلق. وهو من يأتي بموظف من عنده أو حامل حقيبة من حقائبه إلى سدة الرئاسة. فلا يكون لها سبيل آخر من بعده. عُرف قيادة كأنه ظل يذكّر الحريرية بالجمهورية الأولى وبلبنان الكبير، فيما المطلوب دفن كل مظاهرهما وعهودهما وحقباتهما، حتى شراء قصور كل رؤسائهما الراحلين، من السعديات إلى القنطاري وما بينهما.
والعارفون بالمفهوم الحريري للطائف يؤكدون أنه لحظ ضرب هذا الموقع، حين نصّ على مداورة وظائف الفئة الأولى، «من دون تخصيص أي طائفة بأي مركز»، بحيث يسقط هذا الموقع لاحقاً، أو يروّض، كما حال ما لم يسقط بعد.

سبب ثان في عمق الصراع، هو حجم الجيش وأثره في الحياة السياسية اللبنانية. فالمؤسسة العسكرية مع باقي الأسلاك «الشقيقة» لها، تمثّل نحو 100 ألف لبناني. أي مع عائلاتهم قد يصل تأثيرها العام إلى نحو نصف مليون لبناني من مختلف الطوائف والمناطق. هذا الواقع يمثّل عقبة دون تمكّن طرف واحد من «شراء» كل البلد، ويمنع أحادية أي حزب أو تيار، ويحافظ إلى حدّ ما على تعددية التركيبة اللبنانية ويضمن ديموقراطيتها، إذا لم يزجّ في صراعاتها. وهو ما يخالف مشروع الحريرية السياسية في استنساخ نظام «المارونية السياسية» البائد.

يظل سبب ثالث وأخير، هو المتعلق بالبعد الإقليمي لثقافة الطرفين. الجيش بعد الطائف وبعد حروب المواجهة مع إسرائيل، بات أقرب إلى ثقافة عدم التعايش مع الكيان الصهيوني. صحيح أنه يلتزم من ضمن الدولة اللبنانية مفاهيم الشرعية الدولية والسلام العادل والشامل، لكنه نفسياً وعملياً وواقعياً، يبدو أقرب إلى مفهوم «المقاومة»، فيما الفريق الحريري يراهن منذ مطلع التسعينيات، ومنذ أوسلو تحديداً، على نظرية ربيع الألفين والسلام الآتي. وليست مصادفة أنه في حمأة أوسلو، سُجّلت محاولتان لزجّ الجيش في الصراع مع حزب الله، في تموز 93، وبعد شهرين مع حادثة جسر المطار في أيلول 93. إنها قصة نزاع مزمن بين مفهوم الشركة، ومن يفترض ألا يُشرك في توحيد الوطن.

السابق
الاخبار: الكهرباء في عنق الزجاجة ومشاورات حاسمة اليوم
التالي
هؤلاء يريدون التدخل الدولي!