قلب العرب على سوريا وقلب الأسد على السلطة

استعجال الشعوب العربية لثورات "الربيع العربي" بالحسم والانتصار، ناشئ أساساً عن جهل بشروط وقواعد انتصار وحتى فشل الحركات الثورية من جهة، ومن جهة أخرى القلق وحتى الخوف من الفوضى والحروب الأهلية، وصولاً الى رعب التقسيم والتفتيت، والأخذ بوجود مؤامرة كبرى تهدف الدول الكبرى منها الى رسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، أين منها "مقص" سايكس بيكو. الخوف مشروع، لكن الجهل ممنوع. مشكلة العرب من المحيط الى الخليج أنهم لم يعرفوا الثورة.
كل ما عرفوه في العقود السبعة الماضية مسلسل لا ينتهي من الانقلابات العسكرية، التي يكون فيها كل شيء معد من البلاغ رقم واحد وأسماء أعضاء "مجلس قيادة الثورة"، وصولاً الى التحضيرات الخفية للتصفيات الداخلية وقيام الزعيم الأوحد الذي يختصر الشعب والدولة في شخصه. ربما يمكن تحييد ظاهرة جمال عبد الناصر، الذي حول الانقلاب الى ثورة. ولادة مشروعه العروبي والتنموي والاستقلالي هو الذي منحه هذه الثورية التي أدخلته التاريخ.
الآخرون وصلوا الى السلطة بانقلاب عسكري وخرجوا منها بانقلاب، أو استمروا ليخرجوا من التاريخ بعدما حولوا جمهورياتهم الى ممالك يملكون فيها الثروة والسلاح وحق توريثها لأولادهم.

الثورة في سوريا، بدأت بانتفاضة محدودة في درعا، لأسباب معيشية أولاً ومن ثم لمواجهة ممارسات تتعلق بكرامة الناس الذين تحمّلوا الكثير من أجل سوريا، فإذا بهم يتحولون الى مجرد ناس ليس عليهم سوى السمع والطاعة حتى ولو خسروا أطفالهم جدياً. ايمان "النظام الأسدي" في دمشق بأنه يملك ولا يُسأل، هو الذي حول الانتفاضة الى ثورة، هذا التحول لم يكن بفصل الغضب فقط وانما لأن أسباباً كافية بعضها كان ظاهراً والبعض الآخر كامناً موجودة ومتراكمة منذ سنوات.
"النظام الأسدي"، اختصر كل ما يجري منذ أكثر من خمسة أشهر، بأنه "مؤامرة خارجية". رؤية هذه "المؤامرة" تكمن في أن الثورة تمددت على طول "الحزام" الجغرافي الريفي لسوريا الذي له "بواباته" على الدول الحدودية وهي تركيا والعراق والأردن ولبنان. تكفي ملاحقة المدن ـ الأحداث على طول هذا الهلال وأبرزها معرة النعمان ـ أدلب ـ اللاذقية ـ بانياس ـ حمص ـ القصير ـ درعا ـ البوكمال ودير الزور. بعد عدة أسابيع من الانتفاضة انتقلت الأحداث فالثورة من "الحزام الريفي" الى "حزام" مدينتي دمشق وحلب. اشتعال "الحزامين" الريفي والمديني في خمسة أشهر، يؤكد فشل سياسة "النظام الأسدي" وتحديداً نظام حزب البعث فشلاً ذريعاً.

ذلك أن قاعدة حزب البعث وقياداته المتوسطة الفاعلة والمؤثرة جاءت من الريف السوري. فكيف حصل هذا "الانقلاب" وثارت هذه القواعد التي يجب أن تكون "القلعة" الحصينة للنظام؟
"السياسة الاقتصادية الليبرالية السريعة ان لم تكن المتسرعة التي طبقت في سوريا بين العامين 2002 و2009، سرعت في التطورات السلبية في الريف السوري دون تقديم البدائل. وجاء الجفاف القاسي ليدفع بالأزمة الاقتصادية الى أقصى درجاتها حيث ان أكثر من 40 في المئة من سكان الريف هم تحت خط الفقر المدقع".
حتى أركان النظام اعترفوا بعقم وفشل هذه السياسة، منذ نقل عن فاروق الشرع ابن درعا الذي لا ينوب عن الرئيس إلا في بعض اللقاءات الوجاهية دون حق اتخاذ أي قرار اعترافه في الجلسة اليتيمة للقاء التشاوري بأن أركان النظام الاقتصادي قد كذبوا على الدولة وأعطوا أرقاماً عن التنمية غير صحيحة".
أسباب الأزمة الريفية ليست أحادية. منذ أدى رمي "النظام الأسدي" نفسه في أحضان تركيا لتحقيق مكاسب سياسية للنظام، وصلت إلى حدّ التضحية بالتاريخ في اتفاقية أضنة والتخلي عن اللواء السليب الاسكندرون ووضع "سكينها" على الاقتصاد. ذلك أن اتفاق التجارة الحرة مع تركيا أدى نتيجة لغزو المنتجات التركية ذات النوعية الأفضل الى خسارة القطاع الصناعي خصوصاً الريفي منه لموارده، مما رفع منسوب التململ لأن العمال الذين انتقلوا من الإنتاج الزراعي الى الصناعي، وجدوا أنفسهم مرة أخرى دون فرص عمل كانت تكفيهم الحاجة والعوز.
 
وشعوراً بالكرامة من أخوانهم في "الحزام" الريفي والمديني؟
"النظام الأسدي"، قدم لهذه "البرجوازية المدينية" فرصاً اقتصادية ومالية مهمة خصوصاً مع تنفيذ السياسة الاقتصادية الليبرالية منذ العام 2002 وهي بلا شك اغتنت وأصبحت تعتقد ان النظام ضمانة لها ولثرواتها، وذلك على غرار الأقليات التي منحها النظام "الفتات" من السلطة مغذياً إياها بالقول انها شريكة له وأنه "حاميها" من القوى الإسلامية والظلامية، علماً أنها وهي تحتمي به تحميه بوجودها. هذه البرجوازية، ستواجه امتحاناً صعباً، كلما لامس "السهم" الشعبي والدولي "كعب أخيل" في الاقتصاد. حالياً ما زال الاحتياط النقدي لدى النظام حاضراً بقوة نتيجة للتقديمات الإيرانية والعراقية. لكن انحسار هذه التقديمات، إما بسبب تطور موقف بغداد وطهران السياسي، أو لأنهما لاتستطيعان تقديم الدعم الى ما لا نهاية، سيجبر النظام التخلي عما يسمى "آخر الحلال"، حتى لا تتدهور الليرة السورية على غرار الليرة اللبنانية والدينار العراقي. ولا شك أن توقف النمو وانحداره الى ما دون الصفر مع نهاية العام، بسبب انهيار قطاع السياحة، وظهور مفاعيل المقاطعة الاقتصادية الدولية خصوصاً في قطاع النفط كل ذلك سيؤدي الى ارتفاع الأسعار وبالتالي التكاليف المعيشية مع انخفاض في الدخل، مما سيجعل كل بيت سوري يشعر بالأزمة بما فيها "البرجوازية المدينية" المتأثرة حكماً بانخفاض التداولات الاقتصادية وصعوبات الحصول على المواد المستوردة.
قبل عام خلال ندوة في دمشق حضر الرئيس بشار الأسد جانباً منها، قال اقتصادي لبناني متمكن وجريء بعد أن عرض رؤيته للوضع الاقتصادي: "ان قلبي على سوريا". وما كان من الأسد إلا الرد عليه: "كلامك حمّال أوجه".
قلب العرب على سوريا وقلب الرئيس الأسد على السلطة. 

السابق
3250 $.. لم يعالج كلبه !!
التالي
السفير: أوروبـا تشـدّد لهجتـها ضـد سـوريا وتفـرض حظـراً نفطيـاً … مؤجـلاً