كأنه لم يصدر!

باستخدام عبارات النفي ولغة الانكار تعاملت القيادة السورية مع الاحتجاجات الشعبية على مدى الاشهر الماضية، واستمرت تتصرف في الداخل ومع الخارج وكأن هذه الاحتجاجات غير موجودة. في البداية اعتبرت أن تظاهرات السوريين التي كانت تطالب بمجرد الاصلاح، وقبل ان تصل الى المطالبة بإسقاط النظام، هي مجرد جراثيم آتية من الخارج، ولا علاج لها سوى بتوفير المناعة الداخلية لمقاومتها. وعندما اتسعت الاحتجاجات وبدأت الانتقادات الاوروبية لسلوك النظام القمعي حيالها جاء الرد على لسان وزير الخارجية السوري بشطب اوروبا من خريطة العالم. اما زيارة السفير الاميركي الى حماة بعد المجزرة التي ارتُكبت فيها وتصريحاته بأنه لم يرَ «عصابات مسلحة» كما يزعم النظام، فقد كان الرد عليها بالتفكير في منع السفير من التجول خارج العاصمة. وفي مطلع شهر رمضان اعلن وزير الاوقاف السوري محمد عبدالستار السيد ان الازمة في سورية «ولّت الى غير رجعة، وان شهر رمضان سيكون بداية النهاية».

غير ان «الجراثيم» استمرت في الانتشار، واوروبا بقيت بالطبع في قلب خريطة العالم، والسفير الاميركي ظل يتجول في سورية، بينما تجري مراقبة تحركات السفير السوري وزملائه في السفارة السورية في واشنطن. اما شهر رمضان فقد انتهى وحلّ عيد الفطر، والازمة في سورية الى تصاعد.

والآن، وبعد البيان الاخير المتوازن الذي صدر عن وزراء الخارجية العرب، والذي دعا الى «تحكيم العقل قبل فوات الاوان»، استمرت لغة الانكار والمكابرة على حالها، اذ جاء الرد أن القيادة السورية سوف تتعامل مع البيان «وكأنه لم يصدر».

لكن سياسة وضع الضمادات على العيون على طريقة «لم أرَ … لم أسمع»، لم تعد تنفع نظاماً فقدت حكاياته عن «العصابات المسلحة» ووعوده عن الاصلاحات التي ستكون مثالاً يحتذى به في العالم (!) كل صدقية وجدية، حتى من اقرب اصدقاء هذا النظام وحلفائه. الرئيس الروسي مدفيديف الذي استقبل الرئيس السوري مندوبَه امس، قال قبل ايام ان «مصيراً محزناً ينتظر الاسد»، اما الرئيس التركي عبدالله غل فقال بالامس انه فقد الثقة بالرئيس السوري، مضيفاً: من الواضح اننا بلغنا نقطة سيكون معها اي شيء غير كاف وفات اوانه.

ولا داعي للتذكير بمواقف رئيس الحكومة التركي اردوغان من الازمة السورية ومحاولات وزير خارجيته ثني القيادة في دمشق عن استخدام السلاح كوسيلة لحلها، وكذلك بالموقف التاريخي الذي اعلنه الملك عبدالله بن عبدالعزيز ودعا فيه الى وقف ما سماها «آلة القتل» واراقة الدماء في سورية، معتبراً ان ما يحدث في سورية «اكبر من ان تبرره الاسباب».

لقد اختار النظام في دمشق ان يصدق روايته وحدها من فرط ما كررها. والى جانب النفي وتكذيب ما تسمعه آذان العالم وما تراه الأعين على الشاشات كل مساء، استمر في ترديد معزوفته عن العصابات المسلحة وتكرار وعوده بالاصلاحات التي ينوي اتخاذها. لكنه ومع الوقت فقدت الروايتان صدقيتهما: لا النظام استطاع اقناع احد، بمن فيهم اصدقاؤه وحلفاؤه القدامى، بحكاية العصابات، خصوصاً بعد أن منع النظام وسائل الاعلام المحترمة من زيارة المدن السورية وتغطية «الجرائم» المزعومة التي ترتكبها هذه العصابات. ولا استطاع اقناع المعارضين بوعود الاصلاح التي اخذت تفقد صدقيتها هي ايضاً مع المناورات المتعلقة بالمواعيد، والتناقض في تصريحات المسؤولين في الحزب والدولة في شأن الحدود التي يمكن ان يصل اليها هذا الاصلاح.

في اعقاب اللقاء التشاوري الذي دعا اليه النظام في دمشق في شهر تموز (يوليو) الماضي، وجرت فيه مناقشة افكار «اصلاحية» تتناول قوانين الاعلام والانتخابات وتعديل الدستور، بما فيه الغاء المادة الثامنة منه، كتبت في هذه الزاوية تحت عنوان «الرئيس يريد اسقاط النظام» ان هذه الوعود، اذا تحققت، ليست اقل من انقلاب للنظام على ذاته، بوسائله وتحت اشرافه.

كان ذلك تقديراً في غير محله. نظام كالنظام السوري لا يستطيع اصلاح نفسه، لأن ذلك يعني نهايته. يبدو الآن انه اختار ان يبقي على لباسه القديم بعد ان فقدت وعوده بريقها وصدقيتها. لكن ثمن هذا البقاء سوف يكون بالغ الاكلاف عليه وعلى السوريين على حد سواء.  

السابق
بعد النأي بالنفس لبنان يراكم تحدياته
التالي
سوريا تحتاج إلى وسيط..