من صنع أسطورة القذافي؟

في سنة 1973 أعلنت الوحدة بين تونس وليبيا لمدة قصيرة، كان فيها الزعيم التونسي "الحبيب بورقيبة" مريضاً، فاقداً لسلطة القرار الفعلي وخاضعاً لتأثير زوجته. وبينما كان الرئيس العجوز يتابع في التلفزيون خطاباً يلقيه شريكه في دولة الوحدة الرئيس الشاب، الذي لم يتجاوز الثلاثين سنة من العمر (معمر القذافي) في سينما "برلمريون" في وسط المدينة أمام جمهور حاشد، لم يتمالك من الخروج من بيته مسرعاً، متوجهاً إلى المهرجان الملتئم، الذي كان يصفق بحرارة لشعارات القذافي الثورية الحالمة. فوجئ الجمهور بدخول بورقيبة القاعة وبانتزاعه الميكروفون من القذافي الذي وجه إليه علناً نصائح ودروساً لا يزال يرددها التونسيون باستطراف. قال بورقيبة للشاب النزق الحالم إن للسياسة أصولًا وقواعد، وللمعطيات الدولية حقائق ورهانات موضوعية، وأن مآل نزعته الرومانسية المسلحة بقوة المال سيكون وبالًا على بلاده وعلى أمته. شكل خطاب بورقيبة إعلاناً لفشل الوحدة بين تونس وليبيا، وبداية حقبة عاصفة في العلاقة بين البلدين.

كان القذافي أوانها لا يزال يحمل بعض سمات الشخصية البدوية البسيطة الساذجة التي تحدث عنها وزير خارجيته السابق "عبد الرحمن شلقم" في حواراته المطولة مع صحيفة "الحياة" اللندنية. لم يكن الملازم الشاب الذي رقى نفسه إلى رتبة عقيد على إدراك ولو مجمل للعالم الحديث الذي تربى على هامشه، حتى خلال أيام تدريبه في بريطانيا التي حرص أوانها على عدم زيارة عاصمتها العريقة الساحرة.

صحيح أنه كان ينشد بوضوح خلافة الزعيم المصري "جمال عبد الناصر" الذي صحبه سنة واحدة قبل رحيله المفاجئ واتخذه نموذجاً، وادعى انه أوصى له "بأمانة" القومية العربية. إلا أن طموحات القذافي المشطة لم تظهر إلا في منتصف السبعينيات، عندما أصدر كتابه الأخضر مقدماً "نظرية عالمية ثالثة" اعتبر أنها تقدم الحلول الجذرية لمشاكل البشرية السياسية والاقتصادية والثقافية، في مقابل النموذجين الرأسمالي والشيوعي.

ومع أن الكتاب المذكور لم يكن أكثر من شعارات بسيطة ومقولات إيديولوجية ممجوجة، إلا أنه وظفت لنشره وشرحه وبثه ماكينة دعائية هائلة سخرت لها عائدات النفط الليبي. قرأنا لبعض كبار الكتاب والسياسيين العرب تقاريظ للكتاب الأخضر كلها إشادة وتمجيد "لعبقرية" من أصبح يسمى بالمفكر الثائر. ومن بين هؤلاء الكتاب أستاذ فلسفة ليبي مشهور درس في الجامعات الغربية تخصص في شرح "غوامض" فكر القذافي، قائلاً في إحدى المرات "إن الكتاب الأخضر ليس كتاباً للقراءة والتأمل، وإنما هو كغيره من أصول الفكر الإنساني مرجعية تقوم عليها الكتابات وتستمد منها الأفكار والنظريات".

والخطير في الأمر، أن الكتاب خرج من دائرة التنظير إلى دائرة الاختبار والتجريب. قوضت هياكل الدولة الليبية بكاملها، وأعلن "النظام الجماهيري" الذي كان مزيجاً فريداً من الفوضى والقبضة الأمنية القاسية. ولسد الاختلالات الخطيرة الناجمة عن إلغاء الدولة، استند القذافي إلى المعادلة القبلية الأكثر بدائية في توطيد سلطته المطلقة، في ما يشكل حالة فريدة في الحياة السياسية العربية.

ولم يكتف القذافي بالتنظير الفكري، وإنما طمح إلى أن يزاحم علماء الإسلام بآرائه واجتهاداته الفقهية الشاذة والغريبة، قبل أن يطمح إلى أن يكون روائياً مبدعاً.

في نهاية السبعينيات دعا القذافي العديد من كبار العلماء إلى طرابلس، مقدماً لهم نظرياته الدينية الجديدة كإلغاء مرجعية السُنة في التشريع، وحذف بعض فواتح السور، واستبدال التاريخ الهجري بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم). ولم يتردد بعض الفقهاء المشهورين من إيجاد "مسوغات " وحجج لهذه الاجتهادات المثيرة. بل إن القذافي أنشأ جهازاً مؤسسياً خاصاً لنشر فتاويه واجتهاداته الغرائبية هو "جمعية الدعوة الإسلامية"، التي خصصت لها ميزانية ضخمة، وفُتحت لها فروع في عدد كبير من دول العالم.

وفي الثمانينيات والتسعينيات ظهر الروائي الأديب، بخروج مجموعة القذافي القصصية الأولى "القرية..القرية..الأرض ..الأرض وانتحار رجل الفضاء"، التي خصصت لمناقشتها ندوة حاشدة حضرها بعض كبار النقاد والروائيين العرب، قبل أن تصدر رواية "الفرار إلى جهنم". أذكر هنا أن أحد كبار النقاد العرب علق على أعمال القذافي الروائية قائلًا بلغة الدهشة والاستغراب :"لا حول ولا قوة إلا بالله: هذا أديب كبير أفسدته السياسة". كما أن أميناً عاماً لأحد اتحادات الكتاب العربية سلمه بالمناسبة درع اتحاده ،قائلاً:"إن كل فكرة طرحها القذافي تستحق مؤتمراً خاصاً بها".

وفي الوقت الذي كان القذافي يرسل القتلة لتصفية وجوه معارضته الذين أطلق عليهم "الكلاب الضالة"، لم يتردد أحد كبار كتابنا ومثقفينا من تسلم "جائرة معمر القذافي لحقوق الإنسان".

وفي التسعينيات، تحرر القذافي من عباءة القومية العربية ليرتدي الفضفاضة الأفريقية الملونة، وتحول إلى رسول وحدة القارة السوداء، قبل أن يصبح "ملك ملوك أفريقيا". والمثير في الأمر، أنه نجح بالفعل في استمالة أغلب زعماء القارة البائسة لمشروعه الاندماجي الخيالي، الذي وظف للدعاية له الجزء الأوفر من إمكانات بلاده النفطية.

وفضلاً عن هذا الطموح الأفريقي، حرص القذافي في السنوات الأخيرة على تنظيم صلاة سنوية حاشدة يؤمها بالتناوب في إحدى العواصم الأفريقية متلقياً خلالها مبايعة وولاء مشايخ القبائل والطرق الصوفية وروابط الأشراف. وكانت البدعة الغريبة التي أعلن عنها القذافي في السنوات الثلاث الأخيرة هي الدعوة لإعادة بعث "الدولة الفاطمية"، التي اعتبر أنها وحدت المنطقة، وكرست حكم "آل البيت "ونشرت "الإسلام الصحيح". وكما هي العادة، انبرى مثقفون بارزون ومؤرخون لامعون لتسويق هذه الفكرة الغرائبية المثيرة.

سألت مرة كاتباً ليبياً مشهوراً عمل مطولًا في نظام القذافي كيف يمكنه التأقلم مع هذا النظام الذي لا يتناسب مع ثقافته وقيمه، فأجابني :"تعودت أن أتقي شره بأن ألقي له في كل مناسبة عظمة على شكل مقال سخيف أحمي به نفسي من بطشه". بيد أن الاستراتيجية الوقائية ضمنت في الواقع للقذافي اختراق الأوساط الفكرية، وأسهمت في تثبيت أسطورته التي دامت ما يزيد على عقود أربعة.

السابق
الصحف مصدر للأخبار ..وللوقود الحيوي
التالي
زكاة الفطر لاتجوز على الشعب الصومالي