ليلة سقوط العقيد

لخص رائعة الشاعر السوداني محمد الفيتوري «اصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي»، التي غناها المطرب محمد وردي، في التمجيد بثورة اكتوبر السودانية عام 1964، حال ليبيا بعد القذافي، ففي ليلة سقوط العقيد اصبحت ليبيا حرة بلا مساجين سياسيين ولا سجان، بعد 42 عاما خضعت خلالها لتسلط نظام شاذ، حولها الى سجن كبير اعتقل فيه عقول الليبيين وصادر حريتهم وتطلعاتهم المشروعة في حياة كريمة، واصبحت البلاد صحراء سياسية،بلا احزاب او برلمان او نقابات او منظمات مجتمع مدني،وكان مطلوبا من الشعب الليبي ان يصفق للزعيم وكتابه الاخضر وجماهيريته العظمى الوهمية !.

لم يكن غريبا على شخصية العقيد المليئة بالتناقضات، ان يبدو ليلة سقوطه في عالم اخر، اذ أذاع رسالة مسجلة تدعو الشعب الليبي الى الخروج بالملايين لتطهير طرابلس ممن اسماهم «الجراذين والعصابات»، فيما كان سكان طرابلس يحتفلون بسقوط الزعيم ويدوسون باحذيتهم صوره ! لا يصدق هذا الرجل حتى بالاحلام، ان ليبيا يمكن ان تفلت من قبضته، فهو تفوق على» لويس الرابع» الذي شخصن فرنسا في مقولته الشهيرة «انا الدولة والدولة انا»، فقد حول القذافي وابناؤه ليبيا الى مزرعة وواحة للفساد، فـ«سيف الاسلام» لم يكن له اي منصب رسمي، لكنه في «جماهيرية والده» كان يمتلك صلاحيات واسعة في الشأن الداخلي والخارجي، ويتحدث بنفس لغة أبيه البذيئة عن شعبه، ويكرر نفس مفرداته مثل» الجراذين والعصابات و«طز»..الخ !.

ونموذج القذافي رغم تفرده، لكنه بصورة ما يجسد في استماتته في التشبث بالكرسي، وعدم تصديق ان شعبه يمكن ان يثور ضده، حال النظام الرسمي العربي، هي نفس عقلية الاستبداد والفساد التي تعتبر الشعب مجرد قطيع، يوجهها «الراعي» اينما وكيفما يشاء !. ومن سخريات القدر ان القذافي لا يزال رسميا حتى بعد سقوطه ومطاردته «رئيسا للقمة العربية» ! وذلك يكفي للدلالة على هشاشة وكاريكاتورية مؤسسة القمة العربية، التي كانت عنوان حقبة امتدت عشرات السنين من العجز والفشل والهزائم والاحباط. والمفارقة الاخرى ان القذافي نجح في تسويق نفسه عالميا، وذلك مؤشر على نفاق السياسات الدولية، فرغم تناقضات العقيد وتقلبات سياساته، كان حتى قبل سقوطه بأشهر صديقا لدول الغرب، بعد ان انقلب على سياسته، اثر الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003، واتخذ قرارا في منتهى الغباء بتسليم برامج اسلحة الدمار الشامل الى واشنطن ولندن طواعية، بعد ان انفق عليها مليارات الدولارات، وهو تصرف يعكس ايضا استعداد الحاكم العربي، لفعل اي شيء للحصول على «حسن سلوك»من الغرب، والبقاء على الكرسي مدى الحياة، فقد ظن القذافي ان بقاءه مرتبط برضى واشنطن وحلفائها عنه، وليس بحسبانه مصالح شعبه وتطلعاته وحقوقه في الحرية والديمقراطية والعدالة !.

يبقى التذكير بان سقوط نظام القذافي، لا يعني نهاية المطاف، فامام ليبيا تحديات خطيرة، اهمها الحفاظ على وحدة البلاد وتجنب الصراع الداخلي، حيث تضم الثورة العديد من الفصائل والجماعات ذات الانتماءات السياسية والقبلية والفكرية المتباينة، فالامتحان الاكبر هو بناء دولة مدنية ديمقراطية، والاهم التحرر من هيمنة حلف الاطلسي، الذي لا بد انه يرغب بقبض ثمن مشاركته الفاعلة في اسقاط القذافي، فعيون الدول الفاعلة فيه تتجه نحو الثروة النفطية، والفوز بحصة الاسد من كعكعة اعادة البناء، في بلد يقع بجوار اوروبا ولديه ساحل بطول الفي كيلومتر على البحر المتوسط !

السابق
تمويل أمني
التالي
الجغرافيا كما يراها بشّار الأسد