بؤس يرقص من حولنا إلى يوم الدين

يصرخ الحفاة. بعضهم يركضون خلف بعض في الزاروب الضيق. لا يناجون أحداً. هم لا يعرفون إذا كان الله يسمعهم الآن، لكن لا شيء يزيدهم قوة الآن. هي نفسها اللحظات التي عاشها أهلهم قبل ربع قرن على الأقل. في الأحياء نفسها، أو تلك التي غادروها على عجل محشورين في سيارة صغيرة. أجساد تتداخل مع أجساد، كأنها لعبة من معجون. هروب مستمر من جحيم نار وجوع. واللعبة لا يراها إلا من في الدار. لا غريب يمكنه الاقتراب. ليس من شيء يجذبه الى الأمكنة القذرة. ولا شيء يجذبه الى السؤال عنها وعمن يسكن حاراتها المتلاصقة بمنازل أبوابها كثيرة. الفقراء تجذبهم المدينة، الأحياء النظيفة والجميلة، والسيارات التي تسبق الريح، والثياب التي لا يقترب منها الوسخ ولا تعلق فيها رائحة الطعام العفن. كلاب الأغنياء وقططهم مختلفة اللون والحركة. لا شيء يشبه شيئاً بين المكانين. لكن ثمة صلة رحم.

الكبار الذين يسبقون الشمس الى أعمال لا ثبات فيها، يعودون بلا حيل على شيء. رحلة الصباح التي تجعلهم مثل عسكر منهك. يحمل الجنود بعض فتات الليلة الماضية في ورقة وكيس ممزق، يسيرون بصمت أو في طابور. ثمة سيارات على شكل فان، أو هي أقرب الى شاحنات نقل السجناء، لكن أبوابها مفتوحة لمن يريد إلقاء نفسه من دون أن يلتفت اليه أحد. يتدافعون الى قلبها مثل انسياب الماء. صباحاتهم متشابهة. الصامتون يهزون رؤوسهم بالتحية. والآخرون، يتمتمون شتائم لكل ما ومن صادفهم. أحاديث عابرة، مكررة، أسئلة وأجوبة متوقعة. هي أقرب الى لحظة اللقاء عند حافة القبر. وحده السائق يصنع عالمه. موسيقى صاخبة تنافس صوت شتائمه التي تطاول كل من حوله. ركاب أو مشاة يسيرون بالقرب منه أو زملاء له يبطئون سيرهم أمامه أو يلتصقون به من الخلف.

الله وحده الشريك الآن. يسمع ولا يجيب. الحفر التي يعبرونها تشعرهم بالوهن، تظهر لهم أجسامهم كل مرة كأنها رُكّبت على عجل. لا شيء يوصل الرأس بالأطراف والسير نحو القهر الآتي بلا عقبات. الدقائق التي تمر سريعاً، تلقي بهم في حفرة أكبر. هناك، عليهم سماع كل الصراخ من دون اعتراض. يحق لهم كتم الأنفاس مع الغيظ. يضيفون الى مأساتهم اليومية ما يشعرون بأنه يسلب منهم كل ظهيرة. عندما يلقى بهم خارجاً، على حافة أو قرب جدار. يعيدون نبش ما حملوه صباحاً. لا يشعرون بطعمه ولا رائحة له تختلف عن رائحة المكان. يأكلون معه غبار أيديهم، ويلعقون مع الخبز كل سبابهم وشتائمهم. وفي لحظة الراحة المفترضة، ينظرون الى عيون بعضهم بعضاً. يحكون الروايات نفسها. يغضبون وأسنانهم تطرق بعضها بعضاً دونما توقف، لكن الصراخ ممنوع الآن. ثمة صراخ يسمعونه كل لحظة. يرن في الآذان وهو صوت الأولاد يناجون بحثاً عن شيء يشبعهم أو يجعلهم أحياءً ولو لساعات اللعب فقط.

في طريق العودة، يغرقون في مقاعد حُشروا فيها. صوت سائق الفان ارتفع أكثر عما كان عليه صباحاً. الطريق صارت أضيق بكثير. والمتنافسون كثر. الجالسون في المقاعد الممزقة، يصمتون. مشاركتهم الصراخ لن تنفع أصلاً في خفض صوت الموسيقى البلدية. وكيل الشتائم سيفقدهم ما بقي من طاقة في أجسادهم. وبعد رحلة تستمر ساعة على الأقل. ينزل القادمون كأنهم حُرروا للتوّ من سجن مقيت. السير مع رأس لا يلتفت يميناً ولا يساراً، وينظر الى الأرض فقط. والبعض لا يزال يمسك بكيسه الممزق أيضاً.
لا رائحة جديدة في المكان. فقط سيكون هناك أولاد، يقفون على رأس الناصية. يلوّحون مثل كشاشي الحمام، معلنين وصول الآباء. لا يكون الأمر مدعاة للفرح. غالباً ما يقصد منه إنذار العائلات بأن يلزموا الصمت.
الدخول الى الغرف الضيقة مثل كل يوم، لا يحتمل إلقاء التحية ولا انتظار ابتسامة او كلام آخر. ثمة ما يشبه السرير ينتظر القادم، يلقي نفسه عليه ليكون جثة كاملة. لا أنفاس فيها. رائحة العرق وآلات العمل هي التي تعبق الى جانب روائح المحلة نفسها.

الصمت هو الأفضل الآن. مرة جديدة يخرج الأولاد الى الأزقة. الأفضل أن يصرخوا خارجاً ويتركوا الرجل ينام قليلاً. قبل أن يحل الغروب، وتبدأ رحلة البحث عن الضوء. لا كهرباء أصلاً، حتى يصار الى سرقتها. ولا بدائل في هذا الجو الحار. كل ما يمكن القيام به هو السير مجدداً، بصحبة الأولاد وأبناء الجيران، صوب الفان إياه. السائق لا ينتظر سؤالهم عن الوجهة. يقبل ببدل أقل مما يفترض. والاتجاه فوراً صوب البحر. صوب كورنيش تمنى بعض أهل الدولة لو أنهم يشترونه متراً وراء متر، لكي يحولوا دون وصول أبناء بؤر البؤس اليه. ومثل محتجين جاؤوا للاعتصام. ينزل الأبناء ومعهم ما يلزم. من الكرسي الى النارجيلة وكيس البزر، وطبلة أو موسيقى تخرج من الفان نفسه. الأولاد يركضون، لا يهتمون لأي نوع من الفوارق مع المارة، هم الآن يخرجون كل ضغط الدنيا من دواخلهم.

ومن على شرفة عالية في المبنى المقابل، يقف سارق للمال العام أو الخاص، لا فرق، يشتم حظه بأن كل ما فعله لم يبعده عن هؤلاء. كل ملايينه بدت أقل من قروشهم التي أوصلتهم الى المشهد نفسه. ولا قدرة له على الاحتجاج.
تُرى لو قرر هؤلاء عدم العودة الى منازلهم وقرروا احتلال المكان.. ليتهم يفعلون ذلك الآن، الآن وليس في أي غد آخر!

السابق
العرب مصابون بوباءَي السلطة والديكتاتورية
التالي
في مهمّة رئيس حكومة حالي!!