الجغرافيا كما يراها بشّار الأسد

سؤال يخطر بالبال إثر كل درجة إضافية يبلغها انكشاف الطابع الفئويّ الدمويّ للنظام البعثي المحتضر في سوريا: كيف كان لهذا "العقل البعثيّ" أن يشتهي ويرغب في التمدّد والتربّع على كامل الخارطة العربية الفسيحة "من المحيط إلى الخليج" على ما كانت تردّده أشباله وطلائعه صبحاً ومساء؟
كيف كانَ لهذا "العقل البعثيّ الفئويّ" أن يتعامل مع الفسيفساء المناخية والإقليميّة واللغوية والإثنية والدينية والمذهبية للمنطقة العربية الكبرى لو أتيح له توحيدها تحت راية "رسالته القومية الخالدة"؟

من ينسى أنّه وفقاً للدستور السوريّ لا تقتصر قيادة حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ للمجتمع والدولة على "القطر العربيّ السوريّ" وحده. بل أن شرعية قيادة حزب البعث للمجتمع والدولة في هذا القطر مرتبطة، وفقاً لإجتماع المواد 2 و3 و8 من الدستور مع كونه الحزب القائد لعملية توحيد "الأمة العربية" نفسها، وبالشكل الذي يجعل قائد البعث العربيّ أعلى دماغ إستراتيجيّ تنفيذيّ في عملية توحيد الأمّة وتحطيم نظام التجزئة القطرية؟!

بالتالي، كيف يمكن لشخص يكون في هذا الموقع الطليعي المتقدّم، أي مكلّفاً توحيد الأمّة العربية من عربستان والأهواز (التي يحتلها الحليف الإيرانيّ) إلى شنقيط (الإسم العربيّ لموريتانيا) أن يستبدّ به الهلع من النسيج الأكثريّ داخل المجتمع الذي (كان) يحكمه؟ هل أنّ النسيج الأكثري للمنطقة العربية من لون آخر؟

سيقول البعض إنّ "العقل البعثيّ" ظهر من الأساس كـ"عقل أقلويّ" يرى تغليب العصبية الأهلية "الطليعية" على الأكثرية في كل من العراق وسوريا. هذا كلام صحيح وخاطئ في الوقت نفسه. فالعقل الفئويّ البعثيّ يستبدّ بالنسيج الأكثريّ داخل المجتمع، لكنه يستنفر غريزته "المركزية الإنصهاريّة الدمجية" ضدّ كل مظهر من مظاهر التعدّدية الأقلويّة، ويقمع هذه التعدّدية في جميع وجوهها الحضارية والإثنية واللغوية، وطبعاً السياسية. وإذا كان الإحتفاء بالعشائرية والبداوة قد جنّب العفالقة الصدّاميين في العراق محنة تقسيم خطابهم بين "ظاهر" و"باطن"، فإنّ الأرسوزيين الأسديين في سوريا دفعوا هذه الثنائية إلى أقصاها، وكم من عناصر وفية لهذا النظام خربت بيوتها بأيديها يوم كانت تسهو وتفضح "السرّ الفئويّ المعلوم"؟

عجيب أمر هذا النظام من الأساس، وعجيب أمره اليوم أكثر: هو الآن، وبشكل شبه علنيّ، يربط شرعيّته بـ"حماية الأقليّات"، لكن بدلاً من أن يبادر إلى طروحات "لامركزية" هي في العادة ما تطالب به الأقليّات التي تريد حماية نفسها، فإنّه يصرّ على الجمع بين طابعه كـ"نظام فئويّ" وطابعه كـ"نظام مركزيّ"، وفي هذا فاتحة لشهوة دمويّة مهولة، خاصة وأنّ تبنّي النظام الفئويّ للأيديولوجيا اليعقوبية المركزية الشديدة لم تكفل له يوماً تحويل سوريا إلى دولة مركزية بالمعنى الحديث للكلمة، أي أنّ النظام لا يظهر على شكل "دولة" إلا في دمشق وحلب وبعض الأنحاء الأخرى، في حين أنّه تطوّر ومنذ عقود كـ"نظام ترغيب وترهيب" يتعامل مع المناطق الأخرى كما لو كانت محميات مختلفة من "السكّان الأصليين".

كل هذا والنظام لا ينفكّ يعوّل على تربية عقائدية مسكونة بـ"سحر" خارطة "الوطن العربي الكبير" في مقاييسه البعثية. وهذه المقاييس قبل أن تواجه ثورة الشعب السوريّ، والمناخ العام لثورات الربيع العربيّ، فإنّها تهافتت تماماً بمجرّد استقلال جنوب السودان. ففي هذا الإستقلال إحراج قاتل للبعثيين بعامة، وللأسديين منهم بخاصة: فهل كان بمقدور هؤلاء أن يرموا استقلال جنوب السودان بتهمة أنّه "إستقلال أقلويّ"؟!
إلا أنّ لبشّار الأسد ووليد المعلّم، مع حفظ الألقاب، وجهة نظر أخرى، أو بمعنى أصحّ، نظرة جغرافية أخرى. بدأت هذه بمحو الإتحاد الأوروبيّ من الخارطة، لكنّها اليوم تستكمل "أطلسها الجديد" بمحو جامعة الدول العربية في إثر بيانها الأخير، وفي الطريق، جرى محو درعا، بانياس، اللاذقية، دير الزور، البوكمال، حمص، حماة، تباعاً من الخارطة. وفي اليومين الأخيرين بدأ محو دمشق من الخارطة، وهكذا تمضي "الرسالة الخالدة" قدماً، وما أقربنا إلى يوم تنجز فيه الأهداف البعثية كاملة: وحدة، حرية، إشتراكية!!

السابق
ليلة سقوط العقيد
التالي
افطار رمضاني لمنتدى الأعمال اللبناني- الفلسطيني في مخيم نهر البارد