من اصل 400 يعمل 14 فقط!!

يصاب المرء بالتوتّر عندما يسمع كلمة «طوارئ». يشعر بالقلق والخوف، وربما تتسابق في ذهنه صور عن الأعراض الطارئة، وفترة الانتظار، ومهمّة الإنقاذ والإنعاش، ناهيك عن مشاكل عدم توافر الأطباء الاختصاصيين، وقلّة اهتمام الأطباء المقيمين، وعدم توفّر طبيب طوارئ في معظم المستشفيات. ففي لبنان، لا يتعدّى عدد ممارسي طبّ الطوارئ الأربعة عشرة طبيباً، في مقابل الحاجة إلى ما يفوق أربعمئة طبيب طوارئ في جميع المناطق اللبنانيّة.
يطرح المشهد تساؤلات عدّة حول ماهيّة إختصاص طبّ الطوارئ، وحاجات لبنان في القطاع، وأبرز المشاكل التي تعاني منها أقسام الطوارئ، علماً أنه تهدّد حياة المصابين والمرضى إذ يتوقّف إنقاذهم، في بعض الحالات، على فترة زمنيّة لا تتعدّى الدقيقة الواحدة.
يذكر أن حالات كسورالعظم تسجّل النسبة الأكبر من حالات الطوارئ في لبنان، تليها إضطرابات القلب وضربات الرأس، بحسب أرقام نقابة الأطباء.
وبحسب رئيس «الجمعية اللبنانية في طبّ الطوارئ» الدكتور أمين أنطوان القزّي، تشكّل الحالات الخفيفة التي تستقبلها أقسام الطوارئ نسبة عشرين إلى ثلاثين في المئة من مجمل الحالات، وتسجل الحالات المعقّدة نسبة أربعين في المئة، أما الحالات الطارئة والحرجة فتحلّ بنسبة ثلاثين في المئة.

من هو طبيب الطوارئ؟

يشكّل طبيب الطوارئ صمّام الأمان في المستشفى، إذ يقوم باستقبال ومعالجة الحالات الطارئة، وإنقاذ الشخص المصاب، ووضع حدّ لتدهوّر حالته الصحيّة. ويتوجب على طبيب الطوارئ أن يكون ملمّاً بخصائص جميع الحالات التي تواجهه، وقادراً على إنعاشها. ويجب أن يملك الخبرة العلميّة والقدرة على اتّخاذ القرارات السريعة والصائبة في تشخيص مشاكل المصابين ومعالجتهم، وفي التنسيق مع الأطباء الإخصائيين، وفق موارد المستشفى البشرية والتقنيّة. وتتراوح مدّة التخصّص في طبّ الطوارئ بين ثلاث وخمس سنوات من بعد الانتهاء من دراسة الطبّ العام.
ويعتبر طبّ الطوارئ اختصاصاً طبّياً جديداً، نشأ في أوائل سبعينيات القرن الماضي، في «الولايات المتحدّة الأميركيّة» وفي البلاد الأنغلوسكسونية. اعترفت به «الجمعية الطبيّة الأميركية» و«البورد الأميركي للتخصّصات الطبيّة» في العام 1979. ويسود حاليّاً العالم نظامان للتعليم والتخصّص والممارسة في طبّ الطوارئ. يعتمد النظام الأوّل على المدرسة «الأنغلو – أميركية»، ويتبع النظام الثاني المدرسة «الفرنسيّة – الألمانية». وفي لبنان، يتبع نظام طبّ الطوارئ المدرستين، تبعاً لإختلاف توجّهات المستشفيات ورؤيتها.

لتوفّر 7 أطباء طوارئ في المستشفى الواحد!

يؤكّد رئيس «الجمعية اللبنانية في طبّ الطوارئ» ومؤسّس قسم الطوارئ في المركز الطبّي التابع لـ«الجامعة الأميركيّة في بيروت» الدكتور أمين أنطوان القزّي، أنّ المبادئ الأساسيّة لطبّ الطوارئ ترتكز على الاهتمام بجميع الأشخاص الذين يقصدون قسم الطوارئ والذين يعانون من مشكلة صحيّة معيّنة، من دون إهمال الحالات الطفيفة بحجّة أنها لا تشكّل خطراً على حياة المريض: «فيجب على طبيب الطوارئ أن يأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر المريض وعائلته من دون أن يتوجّه إليه بعبارات مؤذية مثل شو جابك على الطوارئ؟ ما بك شي!».
وبحسب المعايير الدوليّة، يذكر القزّي الذي كان رئيساً سابقاً «للأكاديميّة الأميركيّة لطبّ الطوارئ»، بأنّه «يجب أن يتواجد في المستشفى الواحد خمسة إلى سبعة أطباء متخصّصين في طبّ الطوارئ. يعمل طبيب الطوارئ ستا وثلاثين ساعة في الأسبوع، بمعدّل معاينة خمسة مرضى في كلّ ساعتين من الزمن. ونظراً لدقّة المجال وأهميته على مستوى إنقاذ الأرواح، لا يتمّ السماح للأشخاص غير المتخصّصين والذين لا يملكون الخبرة الكافية، بعلاج المرضى في قسم الطوارئ.
ولكن، في لبنان، يبقى الواقع مغايراً للمعايير الدوليّة، إذ يعاني الجسم الطبّي من نقص فادح في عدد الإختصاصييّن في طبّ الطوارئ، ومن إهمال حقوق وضمانات أطباء الطوارئ، ومن غياب لإستراتيجيّة حكوميّة تهدف إلى تنظيم القطاع وتأمين الموارد البشريّة والماديّة الكافيّة لتطويره.
فبحسب القزّي، يوجد ثمانيّة وعشرين طبيب طوارئ مسجّلاً في وزارة الصحّة العامة، من دون أن تتوافر معطيات واضحة حول تخصصّهم العلمي وتدريبهم المهني. ولا يمارس الإختصاص منهم سوى أربعة عشر طبيباً، أما بقية الآطباء فإما مهاجرة أو تعمل في مجال آخر، بينما يحتاج النظام الصحّي في لبنان إلى أربعمئة طبيب طوارئ في كافة المناطق اللبنانيّة.
تفاصيل «الكارثة» في لبنان
يلفت القزّي إلى أن المستشفيات الكبيرة فقط في لبنان، التي لا يتعدّى عددها الثمانيّة، تضمّ أطباء طوارئ أو أطباء اختصاصيين مشرفين على قسم الطوارئ، بينما توكل مهمّة العناية بقسم الطوارئ في المستشفيات الأخرى في بيروت كما في المناطق البعيدة، إلى أطباء تلامذة لم يكملوا تخصّصهم بعد، أو أطباء صحّة عامة لا يملكون القدرة أو المعرفة الكافية لإنعاش جميع المرضى وعلاجهم.
ويضيف القزّي أنه «على الرغم من أن نظام الاعتماد في المستشفيات الذي وضعته وزارة الصحّة العامة، يوجب بأن يكون رئيس قسم الطوارئ متخصّص في طبّ الطوارئ، فإنّ الجهات الخاصة والرسميّة لا تلتزم بهذا القانون بسبب نقص الموارد البشريّة المتخصّصة».
ولا تغطّي وزارة الصحّة ولا صندوق الضمان الاجتماعي ولا مخصصات قوى الأمن والجيش، أتعاب طبيب الطوارئ، ولا تساوي إدارات المستشفيات بين طبيب الطوارئ والأطباء من الإختصاصات الأخرى. ويعتبر القزّي أن «هذه الممارسات غير منطقيّة»، ويعيدها إلى غياب الرؤيّة الواضحة حول أهميّة طبّ الطوارئ في لبنان.
وبحسب رئيس قسم الطوارئ في مستشفى «أوتيل ديو» والمدير الطبّي في «الصليب الأحمر اللبناني» الدكتور أنطوان الزغبي، لا تعير إدارات المستشفيات قسم الطوارئ الإهتمام الكافي «بإعتباره قسماً مكلفاً وغير مربح». ويضيف الزغبي انّ «التجهيزات الطبيّة في أقسام الطوارئ في لبنان جيّدة، لكنه يجب العمل على تحسين أوضاع الأقسام من خلال توفير التقنيات الطبيّة وتأمين الموارد البشريّة وضمان حقوق أطباء الطوارئ وتحفيزهم على العودة من الخارج».
وبغية تشجيع التخصّص في طبّ الطوارئ في لبنان وتحسين ظروف العاملين فيه وإيجاد حلّ لمشكلة النقص في عدد الإخصائيين، يجد القزّي أنه «من الضروري وضع القوانين التي تلزم بوجود طبيب طوارئ في المستشفيات وتصنيف أقسام الطوارئ بناء على الموارد والكفاءات الموجودة فيها وتوزيع الأدوار في ما بينها، وتوفير الحوافز لإدارات المستشفيات لضمّ أطباء طوارئ وتفعيل دورهم في السياسات الصحيّة المتّبعة».

.. وحجم الحاجة ونوعيتها

منذ سنتين، بدأت «اللّجنة الوطنيّة لتنظيم خدمات الطوارئ وإسعاف حوادث الطرق» التي يرأسها وزير الصحّة العامة، بوضع الخطّة الوطنيّة للطوارئ في لبنان، تهدف إلى معالجة مشاكل القطاع وتنظيمه.
ويؤكّد أمين سرّ اللجنة الدكتور بهيج عربيد أنّ «حاجات لبنان في مسألة تنظيم طبّ الطوارئ كبيرة في مرحلتي ما قبل الإستشفاء والاستشفاء». فحتّى اليوم، يعتمد النظام المتبّع في لبنان في مرحلة ما قبل الاستشفاء، على العناية الأوليّة فقط، من دون اللجوء إلى أيّ تدخّل طبّي: «ما يستوجب العمل على تغيير هذا النظام وعلى تأمين الإسعاف الطبّي قبل الوصول إلى المستشفى عبر تواجد فرق طبيّة متخصّصة في سيارات الإسعاف تؤمّن العلاج المباشر والسريع للمصاب»، بحسب عربيد.
ويسعى النظام الصحّي في لبنان إلى معرفة عدد وحدات الإسعاف الطبّي التي يحتاج إليها. ففي فرنسا، تتوفر وحدة إسعاف طبّي لكلّ خمسة وعشرين ألف نسمة. وفي رومانيا، تتوفر وحدة إسعاف طبّي لكلّ خمسة آلاف نسمة.
أمّا في لبنان فتقدّر نتائج الدراسة التي قامت بها اللجنة الوطنيّة الحاجة إلى خمس وعشرين سيّارة إسعاف طبّي تتوزع على كافة المحافظات والأقضية. ويبلغ سعر السيّارة الواحدة مئة ألف دولار.
في المقابل، يعاني النظام الصحّي في لبنان من عدم معرفة مستوى تدريب المسعفين المتواجدين في وحدات الإسعاف، والتجهيزات الموجودة في تلك الوحدات. فمعظم الإصابات الناتجة عن حوادث السير تحدث بسبب شروط النقل وعـــــدم إتباع المعايير العلميّة. فمن الضروري، وبحسب عربيد، تحــــديد الــــشروط والمعايير التي يجب أن تتوافر في وحدات الإسعاف والكفاءات التي يجب أن يستوفيها المسعـــفون.
ويضيف عربيد أنه «يجب إنشاء إدارة مركزيّة للتنسيق بين وحدات الإسعاف، وإنشاء مدرسة تدريب للعاملين بقطاع الإسعاف، كما يجب أن تقوم وزارة الصحّة العامة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، على تشجيع التخصّص في طبّ الطوارئ وإعطاء الحوافز للمتخصّصين».

نقيب المستشفيات: الوضع جيد!

على الرغم من وجود نقص في عدد أطباء الطوارئ في لبنان، وسوداوية المشهد الذي رسمه المعنيّون بالقطاع، يجد نقيب المستشفيات سليمان هارون أن «وضع أقسام الطوارئ في لبنان جيّد، يستوفي المعايير اللّازمة والمطلوبة، فعدم وجود طبيب طوارئ في القسم لا يعني بالضرورة أن المستوى رديء».
وبحسب هارون، تضمّ بعض المستشفيات طبيباً متخصّصاً في الحالات الخطرة، أو طبيباً يمتلك خبرة في مجال الطوارئ. ويخضع العاملون في تلك الأقسام، وفق نظام الإعتماد في المستشفيات، إلى إمتحانات دوريّة لتقييم قدراتهم وكفاءاتهم الطبيّة والعلميّة.
أمّا بالنسبة إلى تولّي التلاميذ الأطباء، الذين لم ينهوا تخصّصهم بعد، مهمة معاينة المرضى في أقسام الطوارئ، فيقول هارون أن «صلاحيات التلاميذ الأطباء محدودة، وتتوافق مع قدراتهم العلميّة، وتوكل إليهم مهمّات محدّدة تحت إشراف مدراء أو مراقبين».
ويشدّد هارون على أن «التوزيع الجغرافي لأقسام الطوارئ في المناطق اللبنانية متجانس بشكل عام، حيث يوجد على الأقلّ في كلّ قضاء مستشفى واحد أو أكثر ذو مستوى جيّد».
ويعيد هارون الدور المحوري في تحسين وضع طبّ الطوارئ في لبنان إلى نقابة الأطباء، «عبر تسليط الضوء على أهمية هذا الاختصاص، وعبر خلق روح من التعاون والتشارك بين الأطباء الإختصاصيين وأطباء الطوارئ، على عكس ما يعيشه النظام الصحّي اليوم من تضارب في المصالح بين أطباء الطوارئ والأطباء الاختصاصيّين».

العنف في «الطوارئ»

يواجه العاملون في أقسام الطوارئ مشاكل عدّة، ومن أبرزها تعرّضهم للعنف الكلامي أو الجسدي. فتظهر دراسة علميّة أجراها الدكتور محمد علم الدين من كلية العلوم الصحية والدكتور أمين القزّي من كلية الطبّ في «الجامعة الأميركية في بيروت» في العام 2009، أن أربعة من كل خمسة عاملين في أقسام الطوارئ تعرّضوا للإساءة اللفظيّة، وأن واحداً من كلّ أربعة تعرّض للاعتداء الجسدي، خلال فترة سنة واحدة.
وقد شملت الدراسة مئتين وخمسة وستين عاملاً في قسم الطوارئ، من أطّباء وممرضين، في ستة مستشفيات كبيرة. وتشير نتائج الدراسة إلى أنّ الأطباء تعرّضوا إلى أكبر نسبة من الإساءة اللفظية، بمعدل ثمانية وثمانين في المئة، وأن الممرّضين والممرضات تعرّضوا لأعلى نسبة للعنف الجسدي بمعدّل 34,6 في المئة. وسجّلت نسبة أربعين في المئة من الأشخاص الذين تعرّضوا للإساءة الجسدية كحالات من الرفس أو اللكم، وروت نسبة ستة عشر في المئة محاولات تهديد بسكين أو مسدس.
وعن الأسباب الكامنة وراء حالات العنف في قسم الطوارئ، تشير النتائج إلى أن مدّة الإنتظار تشكّل السبب الرئيسي في نسبة 77،8 في المئة من الحالات، وتأتي توقّعات الأسرة لعلاج أسرع وأفضل في المرتبة الثانية بمعدّل 50،4 في المئة، ويتسبّب سلوك العاملين في قسم الطوارئ بنسبة 38،3 في المئة من حالات العنف، ويؤدّي عدم وجود سياسات فاعلة لمكافحة العنف إلى نسبة 34،4 في المئة من تلك الحالات، وعدم كفاية الموارد إلى 19 في المئة منها.
ويعيد القزّي حالات العنف في الطوارئ إلى أن جميع مشاكل النظام الصحّي في لبنان تظهر في غرف الطوارئ، «فالواقع لا يلبّي تطلّعات المرضى المبرّرة أو غير المبرّرة، ولا يضمن حقوق العاملين في هذا القطاع، مع العلم بأنّ فترة الإنتظار في أقسام الطوارئ في لبنان لا تعتبر طويلة بالمقارنة مع الدول المتقدّمة كالولايات المتحدّة الأميركيّة أو غيرها».

السابق
ثورات العرب.. في الأمم المتحدة
التالي
الجبهة الديموقراطية تزور وزير الداخلية اللبناني