لعبة ساخنة اسمها الكهرباء

عندما حلّ رفيق الحريري بعد انتهاء الحرب الأهلية «منقذاً» على لبنان، ووعدنا بـ«الربيع والإصلاح»، وتأمين الخدمات للمواطن اللبناني الذي أمِل خيراً بأنه قد يرقى إلى مستويات أفضل، هلّل الشعب اللبناني وصفّق لتصريحاته ووعوده بإنارة البلد، وهنّأه الصغير والكبير، والشبان والمسنّون، بعد حرمان استمر منذ العام 1975 إلى 1993.
أما النتيجة فكانت أن الدولة تكبّدت يومذاك حوالى 12 مليار دولار أميركي، وتدهورت أحوال الكهرباء من سيئ إلى أسوأ، لنكتشف بعد ذلك أن هذا القطاع لم يشهد ذرّة إصلاح، بل استشرت فيه السرقة، لتبدأ الاتهامات المتبادلة بين وزراء الطاقة والمياه المتعاقبين، فكل وزير يتهم من سبقه بأنه هو من سرق ونهب… فإذا كانت تلك الاتهامات المُكالة حقيقة، لمَ لَمْ يُقبض على السارقين؟ ولِمَ لَمْ يُحاكَموا؟ ولِمَ لَمْ يُعمَل بعد ذلك على إصلاح الكهرباء؟ هل لأن هذه الـ12 مليار دولار تبيّن أنها سُرقت ووُزّعت حصصاً على المنتفعين الكُثُر؟ رحل رفيق الحريري والكهرباء لا تزال تتخبط من سيئ إلى أسوأ، ولا حلَّ يلوح في الأفق حتى الآن.
واليوم، تدفع الخزينة اللبنانية يومياً، بناء على سعر النفط المحدد، خمسة ملايين ونصف المليون دولار أميركي، أي 3600 دولار مقابل كل دقيقة للكهرباء، من هنا فإن أي مبلغ من المال يُطرح في أي مشروع، مبررٌ صرفُه لأنه سيوفر كثيراً على الخزينة ويؤمّن حاجات المواطنين.
إنما الاصلاح لا يتحقق إلا إذا كان شاملاً؛ والمثير في الجدل الحاصل حول مقترح وزير الطاقة والمياه جبران باسيل اليوم، هو أن التخاطب ــ كالعادة ــ تشوبه لغة سياسية غير علمية ولا مبررة، ولا توضّح للرأي العام الصورة الحقيقية. فالوزير باسيل يطلب إقرار مشروع تقدّم به بكلفة 1.2 مليار دولار لرفع الإنتاج، وهو يأتي من ضمن ما عُرف بـ«خطة الإصلاح» التي تقدّم بها في حزيران 2010، وأقرّتها آنذاك حكومة سعد الحريري، وما هذا الاقتراح إلا جزء صغير من الخطة الشاملة، ولا يؤدي وحده إلى الإصلاح الشامل في هذا القطاع.

تتشعب مشاكل قطاع الكهرباء وتتكاثر، وهي لذلك تتطلب حلاً شاملاً… فالإنتاج لا يكفي الطلب ويحتّم التقنين، والتعرفة المتدنية لا تغطّي كلفة الانتاج، و40 % من إنتاج الكهرباء يُهدَر ما بين 25 % سرقات، و15 % هدراً تقنياً بسبب اهتراء الشبكة وضعفها في الكثير من المناطق اللبنانية. كما أن استخدام «الفيول أويل» بدلاً من الغاز يزيد كلفة الإنتاج، لتصل الفجوة الحاصلة بين الطلب على الكهرباء وإنتاجها إلى 70 %.
أما المعارضة الحالية، فقد عمدت إلى الردّ بالسياسة، والكيل بمكيالين، وكان متوقعاً أن تعمل على إفشال أي مخطّط أو مشروع تتقدم به الحكومة الجديدة بهدف إسقاطها، بعدما اتخذت منها موقفاً وحكماً مسبقين على أنها حكومة فاسدة وسلبية.
قد يكون المبلغ الذي يطلبه الوزير باسيل كبيراً، فضلاً عن أن ضمانات نجاح مشروعه هذا لا تزال غير معروفة بعد، وانه من الممكن أن تكون تكلفة هذا المشروع أقل، وقد يشكّ البعض بأنه سيضع المبلغ المتبقي في جيبه الخاص، فلمَ لا تلعب المعارضة الحالية دور الرقيب طالما تعتري أقطابها هذه الشكوك وتقلق راحتهم، خصوصاً أنهم تعوّدوا صرف الأموال خارج إطار القوانين المرعية والمطلوبة، ولا يعرف المواطن اللبناني حتى اليوم أين ذهب مبلغ الـ12 مليار دولار!
ثمانية عشر عاماً ولم يستطع أحدٌ فعل شيء، إلى أن تقدّم رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون من خلال صهره الوزير الحالي للطاقة والمياه، بمشروع إلى مجلس النواب لتوافق عليه الحكومة الجديدة، فأقامت المعارضة الحالية الدنيا ولم تقعدها، بل اعتبرت أن هذا المشروع أو الاقتراح هو للنهب والسرقة، وهو أي المشروع ما زال لغاية تاريخه في أدراج مجلس النواب ولم يُحسم الأمر في شأنه بعد، ما يهدد بشللٍ حكوميٍ ونيابيٍ يشهده البلد حتى السابع من أيلول المقبل.
هل هي كيدية سياسية، أم مشكلة تقنية؟ وإذا كانت تقنية فعلاً، فلم لم تعارض «المعارضة» إقرار المشروع عندما أقرّ في مجلس الوزراء؟ وهل دبّت النخوة والمروءة فجأة في نفوس من يعارض إقرار هذا المشروع، الذي يعود بالخير والفائدة على الخزينة، كما على اللبنانيين جميعاً من دون استثناء؟ وهل أصبح الحرص على المال العام من شيَم «الآذاريين» الآن بعد استباحتهم له خلال العهود الماضية؟
ألا ينبغي البدء بالعمل، وعند وضوح أية نقطة ضعف، يُعمل على إصلاحها وتلافيها؟
أين البديل الذي قد تقترحه المعارضة لإنقاذ هكذا مشروع؟ الجواب… لا بديل، لأن المعارضة الحالية بعد خروجها من الحكومة وعدتنا بالعمل جاهدةً على تعطيل أي قرار، وعلى عرقلة تنفيذ أي مشروع، ولا تتوانى أن تُدخِل في «حربها» حججاً واهية، كتلك التي نسمعها أخيراً ومفادها أن الحكومة ولدت لتغطية ما يجري في سورية، أما الخاسر الأكبر فهو المواطن اللبناني.
ولسان حال هذا المواطن اللبناني «العادي» فيقول اليوم للمعارضة الجديدة: «على الرغم من نهبكم أنتم على مدى ثمانية عشر عاماً، لِمَ لم نرَ النور على أيامكم؟، ولِمَ اجتاحت غياهب الظلمات ليالينا صيفاً وشتاءً؟ ولِمَ كسد طعامنا القليل وفسد في «البرادات»؟ هل نسيتم بردَنا و«شوبنا»؟ هل التفتُّم يوماً إلى معاناتنا؟ تطالبون الحكومة الجديدة والأكثرية الجديدة بالإصلاح والتغيير، وتتحدّونهم أن يفعلوا الأفضل، أو بالأحرى ما عجزتم أنتم عن فعله، وكلما تقدّموا هم بمشروع اقتراح، نراكم تصوّتون ضدّه، ما يؤكّد أنكم أنتم أساساً ضدّ الخدمات».
لسان حال المواطن اللبناني يذكّركم بمشاريعكم «البنّاءة»، يذكّركم بـ«سوليدير» التي أخذتموها خداعاً من المالكين، مقابل أسهم بأسعار بخسة أنتم وضعتموها وفرضتموها، حيث تولّى يومها القاضي الراحل وليد عيدو هذه القضية بالطريقة التي تحلو للفريق الجديد المالك وتناسبه. مشاريعكم مشاريع وهمية، أنتم تريدون السلطة فقط ولا تقدّمون خدمةً أو أي جديدٍ للبنانيين وللمجتمع، بل على العكس فقد «تقدمتم» بالبلد إلى الوراء، أنتم تعملون بكيدية، والدليل على ذلك أن «قائد» الأكثرية السابقة يقبع في مراتع الاغتراب مستجمّاً، ويقيم خارج الوطن، ويشترط لعودته أن تكون مقرونة بتعيينه رئيساً للحكومة. وفي حال كان ينتظر العودة بصفته رئيساً للحكومة، فلينتظر إذاً، ربما لا يعود أبداً.
المواطن اللبناني العادي والفقير والمثخن بـ«إنجازاتكم» يقول لكم اليوم: أنكم تلهّيتم بشراء الناس بأسلوب متخلّف، وتعتقدون أن كل شيء يمكن شراؤه بالمال، ففي مفهومكم أن الشعب يشترى ويُباع بالمال، ما يجعل منكم «قادة»، وقد أثبتت الأيام عدم صحة هذه المقولة، وما معارضتكم أي مشروعٍ يمكنه «حلحلة» أوضاع المواطنين سوى معارضة «ببغائية» لا جدوى منها، وحول مشروع الكهرباء الأخير نسألكم: أتريدون إغراق البلد في العتمة؟
اعلموا أن الشعب لا يريد سوى حكومة تؤمّن مصالحه، وتعمل على تلبية مطالبه الحيوية والمعيشية اليومية، حكومة تكون حلول المشاكل والأزمات عنواناً لعملها.

السابق
التكافل الاجتماعي الفلسطيني تزور البداوي والبارد
التالي
مهرجان تراثي على مدرج قلعة راشيا