بين الداخل والخارج

إذا ركبت المقولة الآتية وفق منطق الأمور، أمكن الاستنتاج والوصول إلى أحكام سريعة وليست متسرّعة: الحراك الشعبي السوري، مثله مثل الذي يواكبه في ليبيا واليمن والذي حصل في مصر وتونس، هو حراك ذاتي داخلي في أساسه ومنطلقاته وأسبابه وشرارته. بعد ذلك بمسافة، جاء ويجيء التأثير الخارجي الداعم المُساند، أو المُحجِمْ السلبي.

مُسلَّمة يُفترض أن تكون بديهية. وخارج دائرة النقاش وساحة الاستعراضات الفكرية والقلمية: لم يتحرّك محمد البوعزيزي إلا انطلاقاً من حالة شخصية خاصة، اختصرت من حيث لا يدري صاحبها، كل جبال القهر السياسي والإعلامي والأمني والمالي والإنمائي المتراكمة على مدى سنوات طويلة، وانفجرت في لحظة ناريّة نادرة. كأنّ تواطؤاً تاماً ومقفلاً وعفوياً تمّ وأشعل النار في الجسد الحيّ.. انطلق من أمام عربة الخضار والفواكه في شارع تونسي هامشي في مدينة بعيدة عن المركز، وامتد إلى أعمق أعماق مراكز صُنع القرار والإمساك بالدول والنظم وبرقاب الناس. بل أمسك برقاب التاريخ وأحضره أخيراً إلى حواضرنا ليسجّل وقائعها وحوادثها.

لم تنطلق ثورة العرب الراهنة من توليفة تآمرية، وما كان بقدرة أي عقل تآمري أن يصل إلى هذه الرفعة في الأداء! وهذا الوعي النبيل لمعنى التحرّك المدني والسلمي، وبموجات متتالية من الناس والشعارات والأشعار والأقلام والمنتجات المفاجئة في سعة خيالها وإدراكها لمضامين اللحظة. لم يحتج المرجل إلا إلى قدّاحة أو شرارة بسيطة. وهذه لم تأتِ من خارج المدار والنطاق والسياق والأحوال الخاصة بكل دولة تعيد اكتشاف ذاتها، وتحاول إزالة كل ما علق بها من تشوّهات.

وليس تفصيلاً عابراً ذلك الوعي المقيم منذ أشهر عدّة، في كل نقطة انفجرت (خارج السياق الخاص بليبيا وظروفها) والذي يحدّد أنّ الداخل هو الذي يُنتج محصول المواجهة وليس الخارج. كما الذي يُحدّد ان استعمال السلاح هو الوصفة المثلى لإنقاذ النظام من مصيره المحتوم، وأنّ القوّة الهادرة الآتية من الصوت الذي يواجه الرصاص، والحنجرة التي تواجه الدبابة، تبقى أفعل بكثير من الدخول في متاهات وبلايا حروب أهلية مدمّرة!
.. وكل حرب أهلية لا تستمر إلاّ ليوم أو اثنين. في اليوم الثالث تصير شيئاً آخر تماماً: حرب اقليمية أو دولية. حصل ذلك عندنا في لبنان. ويحصل راهناً في ليبيا. بل وحصل في كل بلاء أهلي مماثل، من أقصى جنوب شرق آسياـ إلى أميركا الجنوبية، مروراً بالمدار الافريقي في أكثر من نقطة.

لكن الحرب الليبية الراهنة فيها ترف الاحادية. لم تتحوّل إلى مواجهة ثنائية صغيرة في سياق حروب كبيرة. لم يعد هناك معسكران يتقاتلان بالواسطة. انتهى ذلك الزمن مع انتهاء الحرب العالمية الباردة. وبالتالي، فإنّ التدخّل الخارجي في ما يجري راهناً، لا يستبطن جرّاً لتدخّل معاكس. لا روسيا ولا الصين في ذلك الوارد. ولا سوريا ولا إيران قادرتان على إعادة تمثيل المشهد العراقي فوق الأراضي الليبية. إلى هذا الحد، فإنّ شعب ليبيا يعاني في حاضره، لكنه محظوظ في مستقبله القريب والبعيد.
.. يُقال في بعض الدوائر، إنّ تحركاً خارجياً يجري راهناً، في شأن الحالة المتفجّرة في جوارنا. وأنّ هناك باباً مفتوحاً للمساومة ومحاولة الوصول إلى حل، يوزّع خريطة النفوذ، كما توزّع جوائز الترضية على متبارين متساوين! وأنّ ذلك في محصّلته قد يؤدي إلى وقف حركة الزمن في مكانها. بل قد يؤدي إلى إعادة عقارب ذلك الزمن إلى الخلف! وفي ذلك يُقال، لو كان ذلك وارداً، أو ممكناً، لما وصلنا إلى هنا، ولما استمرّت عجلة التغيير في الدوران كل ذلك الوقت.. والله أعلم.

السابق
هل كان غملوش في موقع اغتيال حاوي؟
التالي
هل ينجح الإسلاميّون في معالجة التباين في مواقفهم؟