باب العزيزية..

كم هو المشهد متكرر في الزمن العربي المعاصر. الزعيم يتوعد بأنهار من دمع ودماء. يصف المنتفضين عليه بأنهم خونة وجرذان ومندسون ومحششون. يهدد بسحق المعارضين أو الذين يختلف معهم في الرأي. يجلب كل أنواع العذاب لبلده وشعبه ثم يستدرج كل أنواع التدخل الخارجي قبل ان يبدأ المساومة على البقاء، فاذا أيقن أن التغيير آت اختزل النظام والدولة بشخصه واشخاص افراد عائلته وحوّل الجيش الى حماة الزعيم وجعل جزءا من الناس متاريس رمل في معركته ضد الجزء الآخر أو التدخل الخارجي… وبعد ذلك يختبئ هو في جحور وأنفاق وحفر كما تختبئ الجرذان، ويدعو الشعب الى القتال والدفاع عنه والموت من اجله وخوض عمليات مقاومة ضد المحتل أو النظام الجديد قبل أن يعتقل لاحقا هو وأولاده.

ما حصل في باب العزيزية قبل يومين لا يختلف في الجوهر عما حصل في أماكن اخرى من العالم العربي. هنا ايضا القائد هو الدولة والنظام والأرض والأمة والتاريخ والجغرافيا. وهنا أيضا أولاده وأقاربه هم جزء لا يتجزأ من النظام. وهنا أيضا الدمع والدم وأطلال الحروب ومشاهد القمع والتنكيل في السجون السياسية. وهنا أيضا قوافل الضحايا من قتلى وجرحى ومعاقين ومفقودين. وهنا ايضا كل ظهور للزعيم في أي شريط صوتي هو انتصار للامة وكل جولة خاطفة يقوم بها ابن الزعيم هي خسارة لاعداء الامة.

في رسالته الصوتية الاخيرة التي لم تكتمل كان معمر القذافي أشبه برجل يفتح قاموسا من الشتائم وهو يتحدث عن الليبيين الذين دخلوا طرابلس. استخدم مصطلح الحمير والجرذان والأنجاس والوسخين والكلاب. زعيم يتحدث عن الشعب الليبي بهذه الطريقة وهو يقول إنه يقود جماهيرية شعبية. اختبأ ثم هرب وهو يناشد القبائل التدخل للدفاع عما بقي من نظامه. بمعنى آخر قال لهم: «موتوا من أجلي أو من أجل أبنائي سيف الاسلام ومحمد والساعدي وخميس». لم تدافع قواته عن طرابلس التي سقطت في ساعات وكانت عملية الكومندوس الوحيدة التي حصلت هي عملية تحرير ابنه محمد الذي أعطاه الثوار الامان في منزله، تماما كما قالت ذات يوم رغد ابنة الرئيس العراقي السابق صدام حسين ان والدها أرسل قوة لتهريبها من بغداد فيما كان يناشد العراقيين ان يصمدوا ويقاتلوا… القصة نفسها تتكرر: الزعيم هو الدولة والشعب أكياس رمل لحمايته.

في ربيعنا العربي أبواب عزيزية كثيرة سقطت. بدأها للمصادفة حامل الاسم المتقارب: البوعزيزي. بعض الابواب فتح بتضحيات كبيرة إنما أقل بكثير مما حصل في ليبيا وغيرها. ابواب التغيير فتحت في تونس ومصر مثلا من أجل الحفاظ على البيت وكي لا يحترق بكامله رغم تضحيات المئات من خيرة الشبان وآلام ذويهم على فقدانهم. كان الفارق واضحا بين النظام والدولة، فاذا سقط النظام تبقى الدولة. أما ابواب العزيزية الاخرى فصممت من الأساس لاختصار النظام والدولة والارض والشعب والمؤسسات بشخص واحد، هو «سليل المحررين من الاستعمار وهو موحد المتناقضات في دولة واحدة عصرية متطورة حديثة وهو باني الحاضر والمستقبل»، ثم يكتشف الجميع ان كل هذه العناصر موصولة بشخصه فان كان بخير كانت الامة بخير، كما ينكشف للجميع ان هذه الدولة العائمة على ثروات لا تحصى ولا تعد تعيش فقرا على كل المستويات وان مدنها وشوارعها ومناطقها اسوأ من مثيلاتها في الدول الافريقية الذاهبة الى المجاعات، كما تتكشف للجميع حقيقة ان النظام الحديث ما هو الا لعبة سياسية على التناقضات القبلية بحيث لم يعد القذافي يرى في خطابه الاخير غير القبائل ليناشدها الدفاع عنه بعدما دمر مؤسسة الجيش لحساب الكتائب والميليشيات وحوّل الاجهزة الامنية الى اجهزة قمع وتنكيل بالناس.

سقوط باب العزيزية أتم فصلا جديدا من فصول الربيع العربي. أزهرت ورود جديدة نتمنى الا تذبل إذا ما سقيت بالماء الصناعي نفسه الذي استخدمه الديكتاتوريون لتلميع حدائقهم بجمال مزيف. معركة التغيير الحقيقية بدأت الآن ولم تنته، وعلى ثوار ليبيا الذين صاروا في الحكم أن يشرعوا باب العزيزية أكثر لضوء الشمس ونور الحريات والديموقراطية. أن يغلقوا المعتقلات السياسية ويفتحوا ملفات الشهداء داخلها كي تنهار جمهورية الخوف. أن يعيدوا الدستور إلى البلاد والقوانين والمؤسسات وأن يوجهوا مداخيل نفطهم لبناء ليبيا أخرى جديرة بتضحياتهم وجديرون بالانتماء اليها، وان يؤسسوا نظاما على اساس الخيارات الشعبية وصناديق الاقتراع وتداول السلطة. نظام لا ينهيه ملازم خرج من ثكنته الى الاذاعة ولا تهزه خلافات الكتل والتيارات السياسية العاملة تحت سقفه… واذا قدم الليبيون هذا النموذج فإن أبواب عزيزية عربية أخرى ستسقط وأبواب عز أخرى ستحل محلها.

السابق
الانباء: زيارة سعيد لنسيب لحود اجتماعية ولم تتطرق إلى العلاقة مع 14 آذار
التالي
الاخبار: نقاش الكهرباء مستمرّ في العتمة