10 آلاف ليرة لحلّ مشكلة البناء.

رغم انشغال البلاد بالأزمات السياسية والإقليمية، وامتلاء النشرات بأخبار الدول العربية، القريبة منها والبعيدة، وبأخبار أنظمتها وثوراتها وشعوبها والقوى اللبنانية المؤيدة لهذا والمناوئة لذاك، فإنّ الحياة الاجتماعية اليوميّة ما زالت قائمة في لبنان، غير المرتبطة بالتظاهرات طبعاً.
أحد أهمّ هذه النشاطات الحياتية اليومية اختراق القوانين والمحظورات بصورة نمطية، فتخفّ عندما تشتدّ الحملات الأمنية وتزيد عندما تضعف. وما بين هذه وتلك حكاية أخرى، سمّها واسطة أو رشوة أو محسوبية، أو «حكّلي لحكّلك»، فكلّ ذلك يؤدي غرضاً محدداً في استفادة المسؤولين مقابل استفادة «الزبون» في ما هو مقدم عليه.. مهما كان.

الدركي

أمام أحد مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، يقف الدركي جهاد (اسم مستعار) عند نقطة من خمس نقاط يتوزع عليها زملاؤه. أما الغرض فهو منع إدخال مواد البناء عبر هذه المداخل إلى المخيّم. لا يهتم جهاد بالأسباب الكامنة وراء صدور قرارات المنع. فكلّ ما يعنيه هو تأدية واجبه بالكامل. يتقاضى راتبه آخر الشهر ما يقارب مليون ليرة… نعـمة كريم؟ هذا في الظاهر فحسب! أما في التفاصيل، فالمليون ليرة ذاك يمكن لجهاد أن يجني ضعفيه خلال الشهر إذا ما «لعبها صحّ»، وجهاد بالفعل ممّن يلعـبونها صح!
تقف أمام المخيّم فتواجهك كتل الأسمنت التي لا تعرف الطلاء إلاّ لماماً. تتفاجأ بأنّ الطوابق العليا في العديد من المباني قد أضيفت إلى الطوابق الأساسية. تَطاول البناء يؤكد أنّ العمل قائم من دون أيّ حظر يؤدّيه جهاد أو سواه من رجال الأمن.
أما السبب فواضح وضوح أكياس المكسرات التي يتناولها الدركي الشاب يومياً من المحمصة المجاورة لنقطة حراسته، والتي يشهد صاحبها بأنّ أحداً من جهاد وزملائه لم يدفع يوماً ثمناً لما يتناولونه من دكانــه. تلك هي المسألة إذاً: تسلّط تمليه أصول المهنة على طريقتها اللبــنانية، والـتي تؤدي بجهاد إلى تقاضي عشرة آلاف ليرة ثمناً لمرور كلّ شاحنة صغيرة تحمل مواد البناء إلى المخيّم. السعر متّفق عليه بينه وبين أصحاب الشاحنات الذين لا يدفعون شيئاً من جيوبهم، بل من جيب صاحب البناء. عشرة آلاف فوق عشرة آلاف تمضي نوبة جهاد التي يتمنى لو أنّها لا تمضي أبداً. يحدث أحياناً أنّ يتعارك مع بعض زملائه على أحقــية الوقـوف في هذا المكان بالذات بعيداً عن الشؤون المكتبية وسواها مما يسبب «ضيق الحال».

.. والسائق

غالباً ما يتمّ إدخال مواد البناء عبر شاحنات تتبع لشركات مواد البناء، يتواطأ سائقوها بالكامل مع الدركي المناوب عند المدخل، حتى إنّهم حين لا يجدونه هناك، ينتظرونه كي يظهر ليدفعوا ما يتوجب على صاحب البناء. وكما يقول أحد السائقين فإنّ الأمر لا يتعدى كونه «تعبيرا عن حسن نيّة مقصود من قبلنا كي لا «يتلأمن» علينا ويمنعنا من العمل».
كما أنّ هنالك سائقين آخرين يعملون لحسابهم الخاص، وهؤلاء غير محميين غالباً، وإذا ما مارس الدركي لؤمه – أي واجبه بطبيعة الحال – فإنّ محضر ضبط يفوق 500 ألف ليرة سينظم بحقهم، عدا عن حجز النقلة، حيث يتوجب عليهم والحال هذه، أن يُبـقوا على الثــقة بينــهم وبين الدركي، إفادة واستفادة لهم وله ولصــاحب البناء، وهذه هي حال كامل مثلا.
كامل (26 عاماً) يملك شاحــنة صغيرة (بيك أب) لكنّه يفضل، حين يتسنى له ذلك، أن يتهرّب من الدفع للدركي إلاّ حين يجد نفسه محاصراً. ولعمله هذا خطة معينة حين يمارس مهـمته بين العــاشرة لــيلاً والسادسة صباحاً. كامل الذي لا يتقاضى مقابل كلّ نقلة مواد بــناء أكثر من 20 دولاراً، يشعر أنّه يقوم بمسـاعدة الأهالي في المخــيّم عبر عــمله هذا، خاصة أنّ أجره زهيد نسـبياً، كما أنّه يعفــيهم من «الرسـوم الإضافية» على المدخل في كثير من الأحيان. لكنّ الأوقات التي يمارس فيها كامل خطته لا تكون سالكة دائماً، فهو ينتظر نوم الدركي المناوب كي يتسلل، فيطفئ أضواء شاحنته، ويقف بعيداً عن نقطة الحراسة، ويستشعر التحركات كمخبر، حتى تأتي الفرصة فيستغلها من «مرة إلى 3 مرات في الليلة».
لا يقف كامل عند هذا الحدّ بل يتهور أحياناً حين يملّ من دركي لم ينم بعد، فينطلق بشاحنته بأقصى سرعة مخترقاً المدخل، وتاركاً الدركي مذهولاً بينما يحاول أن يتمالك نفسه؛ «لا يجرؤ على إطلاق النار فقد صارت الأمور معروفة للجميع»، يقول الشاب بثقة.

 
.. وصاحب البناء

في المخيّم، فلسطينيون ولبنانيون جميعهم ممنوعون من بناء المنازل أو زيادة طوابق إلى المباني التي يسكنونها، وهم ممنوعون أساساً من إدخال مواد البناء. كثير من الأهالي استغلوا فترات عدة ومساومات عديدة ليتمكنوا من ذلك في سبيل تزويج أبنائهم وإسكانهم. ناجي أحد الشبان اللبنانيين الذين يتعاونون يومياً مع كامل وكذلك مع شركة الشاحنات، كي يتمكن من بناء طابق فوق بيت أهله المتهالك. لا يسعى ناجي (33 عاماً) إلى السكن في المكان، لكنّه ينوي تأجير الشقة حال انجازها ما يؤمن له بدلاً يتراوح بين 250 و300 دولار شهرياً.
لا يهتم بالحديث عن اختراق القانون عبر تهريب مواد البناء وتشييد الشقة، فالمسألة بالنــسبة إليه محســومة، وهي أنّ المولجين بتطبيق القانون «فاسدون.. فهل تقف الأمور علينا؟!»، يقول. أما عن تلك الرسوم الإضافية التي يدفعها للدركي فلا تشغل باله كثــيراً، لأن، كما يشير، «آخرين دفعوا أكثر بكثير ثمناً لتشييد سقف في المنطــقة، حيث وصل السعر إلى 7000 دولار لرئيس المخفر، ومع ذلك نظمت بحق بعضهم مخالفات!».
ناجي أدخل حتى اليوم ما يقرب من 25 نقلة، دفع مقابل كلّ واحدة منها 10 آلاف ليرة للدركي. لا يهتم كثيراً إن كان للضابط حصة من المبلغ، فكل ما يهمّه أن تصل المواد إلى المخيّم لأنّ الهدم غير موجود في قاموس المكان؛ «المهم أن تجتاز المدخل.. وطالما دخلت بالمواد لا أحد يمكنه أن يمنعك من البناء أو أن يزيل ما بنيت».
مهمة يومية تتطلّب قيام صاحب البناء بالدفع، وسائق الشاحنة بالوساطة، والدركي بالاستلام. 10 آلاف ليرة تحلّ مشكلة البناء في المخيّم… كما تحلّ مشكلة الراتب الضئيل لدركي المدخل الذي سيخسر تمويله اليومي حين يطبّق القانون… فهل سيطبّقه؟

السابق
الحماصنة يشهرون..نكاتهم
التالي
أزمة الدين وتراجع الدور الأميركي