أهذه نهاية الرأسمالية؟

إن التقلبات الهائلة والتصحيحات الحادة لأسعار الأسهم التي تضرب الأسواق المالية العالمية الآن تشير إلى أن أغلب الاقتصادات المتقدمة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الركود المزدوج، ويبدو أن الأزمة المالية والاقتصادية الناجمة عن إفراط القطاع الخاص في الاستدانة والاستعانة بالروافع المالية (استخدام الأموال المقترضة لزيادة العائد على الاستثمار) اضطرت القطاع الخاص إلى زيادة مستويات الديون في هيكل رأس المال بمقادير هائلة في محاولة لمنع أزمة كساد أعظم ثانية (أشبه بأزمة ثلاثينيات القرن العشرين) من الاندلاع، ولكن فترة التعافي التي تلت ذلك كانت هزيلة وأدنى من المتوسط في أغلب الاقتصادات المتقدمة نظراً لبرامج تقليص المديونية المؤلمة.

والآن أدى مزيج من ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية، والاضطرابات في الشرق الأوسط، والزلزال والتسونامي في اليابان، وأزمة الديون في منطقة اليورو، والمشاكل المالية في أميركا (والآن خفض تصنيف ديونها)، أدى إلى زيادة هائلة في مستويات الإحجام عن خوض المجازفات. وعلى المستوى الاقتصادي تباطأ الأداء إلى مستويات خطيرة في الولايات المتحدة، ومنطقة اليورو، والمملكة المتحدة، واليابان، وحتى الأسواق الناشئة السريعة النمو (الصين، وآسيا الناشئة، وأميركا اللاتينية)، والاقتصادات القائمة على التصدير والتي تعتمد على هذه الأسواق (ألمانيا وأستراليا الغنية بالموارد الطبيعية)، باتت تعاني تباطؤا حادا.

حتى العام الماضي، كان بوسع صناع القرار السياسي دوماً أن يخرجوا الأرنب من قبعتهم لرفع أسعار الأصول وتحريك التعافي الاقتصادي. فقد حاول المسؤولون كل شيء: الحوافز المالية، وخفض أسعار الفائدة إلى الصفر تقريبا، وجولتين من “التيسير الكمي”، وإقامة سياج حول الديون المعدومة، وإنفاق تريليونات من الدولارات على عمليات الإنقاذ وتوفير السيولة للبنوك والمؤسسات المالية. والآن نفدت أرانب الحواة.
وتشكل السياسة المالية في الوقت الراهن عبئاً على النمو الاقتصادي في كل من منطقة اليورو والمملكة المتحدة، وحتى في الولايات المتحدة، بدأت حكومات الولايات والحكومات المحلية، والآن الحكومة الفيدرالية، بخفض الإنفاق وتقليص مدفوعات التحويل، وقريباً سوف تضطر إلى زيادة الضرائب.

والواقع أن أي جولة أخرى من إنقاذ البنوك لن تكون مقبولة على المستوى السياسي أو مجدية على المستوى الاقتصادي: فأغلب الحكومات، وخاصة في أوروبا، تعاني ضائقة شديدة حتى أنها لم تعد قادرة على تحمل تكاليف عمليات الإنقاذ؛ بل إن المخاطر السيادية التي تحيط بها تعمل في واقع الأمر على تأجيج المخاوف بشأن صحة البنوك الأوروبية، والتي تحتفظ بأغلب الأوراق المالية الحكومية المتزايدة الهشاشة.

ولن تتمكن السياسة النقدية من تقديم أي قدر يُذكَر من المساعدة، فالتيسير الكمي مقيد بفعل التضخم الذي تجاوز الهدف في منطقة اليورو والمملكة المتحدة، ومن المرجح أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة جولة ثالثة من التيسير الكمي، ولكن هل يكون الأوان قد فات؟ لم تتمكن جولة التيسير الكمي الثانية في العام الماضي والتي بلغت قيمتها 600 مليار دولار، بالإضافة إلى ما قيمته تريليون دولار (التريليون مليون مليون) في هيئة تخفيضات ضريبية وتحويلات، من تحقيق أي نمو يتجاوز 3% لمدة ربع عام واحد. ثم تراجع النمو إلى ما دون 1% في النصف الأول من عام 2011. وسوف تكون الجولة الثالثة من التيسير الكمي أصغر كثيرا، وسوف يكون تأثيرها أقل كثيراً في دعم أسعار الأصول واستعادة النمو.

ولا يشكل خفض العملة خياراً ممكناً بالنسبة إلى كل الاقتصادات المتقدمة: فكلها تحتاج إلى عملة أضعف وتوازن تجاري أفضل حتى يتسنى لها استعادة النمو، ولكنها لا تستطيع أيضاً أن تحقق هذه الغاية في نفس الوقت. لذا فإن الاعتماد على أسعار الصرف بهدف التأثير في التوازنات التجارية يُعَد لعبة محصلتها صفر. وهذا يعني أن حروب العملة تلوح في الأفق الآن، حيث اشتبكت اليابان وسويسرا في معارك مبكرة في محاولة لإضعاف أسعار صرف عملتيهما، وسوف يلحق بهما آخرون قريبا.

في الوقت نفسه، وفي منطقة اليورو، تجازف إيطاليا وإسبانيا الآن بفقدان القدرة على الوصول إلى السوق، فضلاً عن تصاعد الضغوط المالية على فرنسا أيضا، ولكن كلاً من إيطاليا وإسبانيا أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس وأضخم من أن يتسنى إنقاذها، والآن، سوف يشتري البنك المركزي الأوروبي بعض سندات الدولتين كوسيلة لإقامة جسر إلى مرفق الاستقرار المالي الأوروبي الجديد في منطقة اليورو. ولكن إذا خسرت إيطاليا أو إسبانيا القدرة على الوصول إلى السوق، فإن الصندوق الذي قرر مرفق الاستقرار المالي الأوروبي توفيره بقيمة 440 مليار يورو (627 مليار دولار) فقد يستنفد بحلول نهاية هذا العام أو أوائل عام 2012.

وعلى هذا فإن لم يضاعف مرفق الاستقرار المالي الأوروبي صندوقه إلى ثلاثة أمثاله- وهو التحرك الذي سوف تقاومه ألمانيا- فإن الخيار الوحيد المتبقي سوف يتمثل بإعادة الهيكلة المنظمة، ولكن القسرية للديون الإيطالية والإسبانية، كما حدث في اليونان. وسوف يعقب ذلك إعادة الهيكلة القسرية للديون غير المضمونة لدى البنوك المفلسة، لذا فعلى الرغم من البدء في عملية تقليص المديونية بالفعل، فإن خفض الديون سوف يصبح ضرورياً إذا لم تتمكن الدول من استعادة النمو أو لم تتمكن من اللجوء إلى التضخم للخروج من مشكلة الديون.

يبدو أن كارل ماركس كان محقاً جزئياً عندما زعم أن العولمة، والوساطة المالية الجامحة، وإعادة توزيع الدخول والثروات من العمالة إلى رأس المال، من الممكن أن تدفع بالرأسمالية إلى تدمير نفسها (ولو أن وجهة نظره في أن الاشتراكية سوف تكون أفضل ثبت خطؤها). إن الشركات تخفض الوظائف بسبب نقص الطلب النهائي. ولكن خفض الوظائف يؤدي إلى تقليص دخل العمالة، وزيادة التفاوت وتقليل الطلب النهائي.
الواقع أن التظاهرات الشعبية الأخيرة، من الشرق الأوسط إلى إسرائيل إلى المملكة المتحدة، وتصاعد الغضب الشعبي في الصين- وقريباً في اقتصادات متقدمة وأسواق ناشئة أخرى- كانت نفس القضايا والتوترات بمنزلة المحرك لها جميعا: اتساع فجوة التفاوت بين الناس، والفقر، والبطالة، وفقدان الأمل واليأس. وحتى أبناء الطبقة المتوسطة في مختلف أنحاء العالم بدؤوا يشعرون بالضغوط الناجمة عن انخفاض الدخول وتقلص الفرص.

ولتمكين اقتصادات السوق من العمل كما ينبغي لها وكما تسمح لها إمكاناتها، فيتعين علينا أن نعود إلى التوازن الصحيح بين الأسواق وتوفير السلع والمنافع العامة. وهذا يعني التحرك بعيداً عن كل من النموذج الأنجلو سكسوني (دعه يعمل) واقتصاد الدجل والشعوذة، والنموذج الأوروبي القاري المتمثل بدولة الرفاهة القائمة على العجز. فكل من النموذجين معطل وناقص.

إن إيجاد التوازن الصحيح اليوم يتطلب خلق فرص العمل جزئياً من خلال الحوافز المالية الإضافية الموجهة إلى الاستثمار في البنية الأساسية الإنتاجية. ويتطلب أيضاً المزيد من الضرائب التصاعدية؛ والمزيد من الحوافز المالية القصيرة الأجل إلى جانب الانضباط المالي في الأجلين المتوسط والطويل؛ ودعم السلطات النقدية كملاذ أخير للإقراض من أجل منع هروب الأموال من البنوك على نحو مدمر؛ وخفض أعباء الديون المستحقة على الأسر المفلسة وغيرها من ممثلي الاقتصاد المتعثرين؛ وفرض الرقابة الصارمة وتشديد القيود التنظيمية على النظام المالي الجامح؛ وتفكيك البنوك الأضخم من أن تُترَك للإفلاس واحتكارات القِلة.

بمرور الوقت، سوف يكون لزاماً على الاقتصادات المتقدمة أن تستثمر في رأس المال البشري، والمهارات وشبكات الأمان الاجتماعي من أجل زيادة الإنتاجية وتمكين العاملين من المنافسة، واكتساب قدر أعظم من المرونة والازدهار في ظل الاقتصاد الخاضع للعولمة. وإذا لم يحدث ذلك فلنستعد- كما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين- لركود لا ينتهي، وكساد، وحروب عملة وحروب تجارية، وضوابط على رؤوس الأموال، وأزمات مالية، وإفلاس سيادي، وزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي على نطاق واسع.

السابق
مانديلا ليبيا
التالي
رضّة الدماغ قد تسبب انفصام الشخصية