عود على بدء..

بل خمس سنوات، صدرت «الأخبار» متأخرة بضع سنوات. ربما كان من المفترض أن تصدر مطلع الألفية الجديدة. ما حال دون ذلك هو النقص الواضح في الرؤية الكاملة التي كانت ستقود حكماً إلى استنتاج مباشر وحاسم في المواجهة المتعاظمة مع المشروع الأميركي في المنطقة.

كان لبنان، قبل خمس سنوات، على موعد مع لحظة من لحظات الذروة في الصدام المباشر بين تيار المقاومة والمشروع الأميركي. المنطقة كلها واكبت حرب إسرائيل في عام 2006، انخرط العالم كله في معركة هدفت إلى تتويج حروب أميركا ما بعد 11 أيلول، لكن ثلة من المقاومين نجحت في إحباط المشروع، ودفعه خطوات بعيدة إلى الخلف.

لم تنته المواجهة عند هذا الحد. ظل الاستنفار السياسي والاعلامي والثقافي والدبلوماسي والأمني والعسكري قائماً في وجه المقاومة. والتحديات تجاوزت المواجهة المباشرة نحو أوسع معركة بغية الذهاب نحو مستوى جديد من المقاربة لكل شيء من حولنا. لم يكن أصلاً في بالنا سوى ما كتبه جوزف سماحة في افتتاحية الانطلاقة «توقيت صائب»، وما أوجزه عن طبيعة توجه «الأخبار» عندما قال: «ندرك أنها مغامرة محسوبة. سنفعل ذلك معلنين أننا ننتمي، سياسياً، إلى معسكر رافضي الهيمنة، وهو معسكر يمتدّ من قلب الولايات المتحدة الأميركية إلى أقاصي الشرق وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأوروبا، ومعلنين أيضاً أننا ننتمي، مهنياً، إلى معسكر الحرص على التعددية والديموقراطية والموضوعية والحداثة والثقافة الإبداعية». وأضاف أن «دلالات المواجهة المستمرة كثيرة، ليس أقلّها هذا الانكشاف المريع لوضع النظام العربي الرسمي واتساع الهوّة بينه وبين شعوبه. لا بدّ من رفع سقف النقاش بشأن القضايا العربية كلها واستعادة هذا التقليد اللبناني القائل بأن المسكوت عنه في مكان آخر، مباح هنا».
منذ اليوم الأول، خرجت «الأخبار» لتلاقي جمهوراً كبيراً بانتظارها. لم تكن تحتاج إلى أي نوع من التسويق أو الدعاية. لم تكن بحاجة إلى من ينادي عليها. كانت تحتاج فقط إلى كل الجهد الجبار الذي قام به فريق من الشباب والشابات الذين وجدوا في الفكرة والمكان والمهنة مكاناً يشعرهم بذواتهم الإنسانية، ويتيح تجاوز أسوأ ما في علاقات رب العمل بالموظف. وأتيحت لنا صياغة إدارية منعت كل سلطة وصاية بالمعنى المتعارف عليه في كل الصحافة العربية، لا اللبنانية فحسب. وكانت القصة مرتبطة، فقط، في كيفية التعبير عمّا نفكر فيه، بكل التنوع الذي وجد، وبكل الآليات التي جرى ابتداعها، ضمن إطار المشتركات الكبيرة التي حددها جوزف مبكراً.
خلال سنوات قليلة، كانت «الأخبار» تتعامل بتواضع أمام آخرين. قررت، عن وعي، إشراك القراء في ما تفعله، وذهبت نحو التفاعل مع القراء من خلال آليتين مثّلتا على الدوام عنصر قوة إضافية: الأولى، أن الموقع الإلكتروني تحول وسيلة لمناقشة الجريدة في كل ما تكتب. والثانية، أن «الأخبار» مكان مفتوح لمن يقف خارجه. لا أسوار تحول بين القراء والموجودين في المكان. أخبار الجريدة وناسها متداولة ومتاحة من دون تدخل، رغم كل السلبيات التي نجمت عن ذلك. لكن في كل مرة تعرضت فيها «الأخبار» لأزمة، كنا نلمس أهمية هذه العلاقة، وكنا نفهم أهمية إشراك القراء في الهم المركزي الذي نحمل. وليس صدفة أن الكثير من موادنا وأخبارنا الخاصة جاءت تطوعاً من مواطنين في لبنان والعالم العربي يتولون مناصب عامة أو خاصة، لكنهم كانو يشعرون بأن «الأخبار» منبر يتيح لهم التعبير عن هواجس، ويتيح المعالجة المهنية لموضوعات ظلت على الدوام في دائرة الممنوع الاقتراب منه.
على أن الأهمية الأخرى تمثلت في التنوع الذي طبع الناس العاملين في الجريدة؛ من يساريين بعضهم ظل على علاقة بأطر سياسية وتنظيمية قائمة، وليبراليين لديهم الحسّ النبيل تجاه قضايا الإنسان في كل شيء، وإسلاميين ينتمون إلى معسكر الحرية والمقاومة والسعي إلى انتزاع مكان محترم وسط العالم الإقصائي، وحشد من المنتمين إلى تيارات وأفكار متنوعة وجدوا أن الصبغة المدنية لهذه المؤسسة تتيح لهم ما عجزوا عن العثور عليه في أمكنة أخرى. لم تكن «الأخبار»، يوماً، حزباً أو ممثلة حصرية لفكرة أو تيار، وهي لا تتسع لعقل إقصائي أو تكفيري، وهي ليست في موقع الداعي إلى قلب الطاولة ونقطة على السطر. كان همّها، ولا يزال، فرض الحقوق المدنية للأفراد. لا دخل لها في معتقدات هذا أو ذاك، ولا في حقه في استخدام ما يناسبه من أفكار. لكنها لم تكن على الحياد في المسألة الوطنية الأكبر، المتصلة بأن المقاومة ليست حقاً متاحاً ومشروعاً فحسب، بل حق مقدس يجب الدفاع عنها، وحمايتها، والسعي إلى مساندتها في كل ما يتيح لها تحقيق المزيد من الانتصارات. وفي هذه النقطة، لم تكن «الأخبار» تقبل بأن تخضع لاختبار علمانيي العالم المتسلّط. فلا مشكلة مع العباءة العقائدية لتيار المقاومة الناشط في بلادنا ومنطقتنا والعالم. ولا مشكلة في اللون الذي يختاره المقاومون لأنفسهم. ولأن هذا الموقف كان حقيقياً، فقد كان تمسكنا بحقنا في الدفاع عن وجهة نظرنا في كل شي حقاً قائماً لا جدال فيه. لا نقبل أن يمسّه أحد، رغم كل الضغوط التي تعرضنا لها، ولا نزال.

وقبلنا، لأسباب وأسباب، أن نكون عرضة لاختبار قام، في جزء كبير منه، على فرضيات وهمية اختلقها الذين كرهوا «الأخبار» من قبل أن يصدر عددها الأول، خصوصاً أولئك المنتشرون بين أروقة ممالك الصمت والموت، أو العاملون تحت إشراف المنظمات العالمية الخاضعة لحسابات الدول الكبرى، أو حتى الذين وقعوا ضحية حيلة المنظمات غير الحكومية التي هدفت ولا تزال إلى ضرب الإحساس العام وجعله فردياً من دون طائل.

أراد كثيرون من خصوم تيار المقاومة اعتبار «الأخبار» ناطقة بلسان حزب الله وإيران وسوريا. واعتقدوا أن هذا العنوان من شأنه احتواء الجريدة قبل صدورها، أو تحويلها مسبقاً إلى منبر مرفوض. وخاضوا من أجل هذا الهدف حروباً لم تتوقف حتى اليوم، شارك فيها زملاء في المهنة جعلتهم «الأخبار» في حالة أرق وقلق، وسياسيون تعوّدوا وسائل الإعلام خادمة لهم، ونافذون من أرباب الاقتصاد الريعي الذين يعيشون على حساب تهميش الغالبية، لا يعرفون سوى الابتزاز بالترغيب والترهيب، أو سفارات كانت لترفض فكرة أن يراقب أحد ما تحركاتها ويحاسبها على ما تقول وتفعل، أو حكومات ودول تعودت لبنان العالم العربي خالياً من صوت نقدي حقيقي، لا ارتزاق فيه ولا وشاية. وعندما اختارنا موقع «ويكيليكس» منبراً لنشر قسم من وثائقه، كان يعرف قيمة «الأخبار» المضافة على عالم الصحافة الغربية، وكنا ندرك يوماً بعد يوم أن المواجهة ستكون أكبر، وأن الهجمة ستكون أكبر، وأن للصمود كلفة أكبر.

مع اندلاع الثورات العربية في تونس ومصر، ثم في ليبيا والبحرين واليمن، كانت «الأخبار» شريكة في كل شيء. لم يكن هناك أي إحساس بالقلق، أو بشيء يستدعي التوقف للحظة. حتى الأخطاء المهنية التي ارتُكبت كان لها ما يبررها في الموقف السياسي الحاسم إزاء دعم غير مشروط لشعبي تونس ومصر، بوجه حكمين، فاسدين، لاوطنيين، ويمثلان عقبة أمام تطور المقاومة العربية في وجه إسرائيل، وأمام تطور شعبَي البلدين وحقوقهما. وعندما اقتربت الثورة من البحرين، لم يكن لدينا ما نخفيه أيضاً، ولو أننا أخذنا في الاعتبار، نتيجة الفهم السياسي، أن هناك معضلة ستواجه حراك هذا الشعب، بسبب تعقيدات المنطقة.

لكننا لم نقف عند حساسيات أخذها الآخرون في الاعتبار. وعندما بدا الانقسام خطيراً وحاداً في ليبيا واليمن، وصار العالم يتدخل بقوة، وصارت أميركا وأوروبا الاستعمارية، وحكومات ممالك النفط، تريد إدارة الثورات لحسابها، ظللنا نحفظ المسافة باتجاه دعم طموحات الناس، وكان علينا، ولا يزال، واجب رفع الصوت أكثر ضد كل صنوف التدخل الخارجي في وقائع هذه الدول، وأن ندين كل صوت يبرر تدخل العالم الاستعماري في شؤون هذه الدولة، قولاً سياسياً أو دعماً دبلوماسياً أو تدخلاً عسكرياً… ثم جاءت الانتفاضة في سوريا.
ولأن لهذا الأمر حساسيته، لا بد من اللجوء إلى المباشرة، والشفافية، من أجل فهم ما قامت به الأخبار، وما حصل في ظله، وما سيكون عليه الموقف لاحقاً.

السابق
أيّ خيار سيذهب إليه حزب الـله؟
التالي
الفرزلي: سوريا تقسم بين اسرائيل وتركيا