لبنان ..فرصة قد لا تتكرر

 أحيا اللبنانيون في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر الحالي، الذكرى السادسة والستين للاستقلال، وسط أجواء توافقية تبشر بعهد جديد.
التطورات الإيجابية الأخيرة على الساحة اللبنانية بعد ولادة الحكومة، تؤشر إلى انحسار حقبة سوداء في تاريخ لبنان، شهدت اضطرابات وتوترات سياسية وأمنية تخللها مسلسل من الاغتيالات والتفجيرات الدامية التي غيبت العديد من الشخصيات السياسية البارزة عن المشهد السياسي في بلاد الأرز.
ومع تلاشي هذه الصورة القاتمة، يدخل لبنان مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي الداخلي، بما يفتح المجال أمام إيجاد حلول للمشاكل الداخلية والخارجية التي تراكمت على خلفية الأزمات السياسية التي مر بها لبنان، وتزامنت مع دخول أطراف خارجية على الخط، تسببت سياساتها المتناقضة في وضع البلاد على حافة الحرب الأهلية، وكادت أن تجعل من لبنان عراقاً آخر، قبل أن تنجح المساعي الدبلوماسية، وجهود دولة قطر بشكل خاص، في نزع فتيل الانفجار عبر التوصل لاتفاق الدوحة في مايو من العام الماضي.
وإذا كان من الجائز اعتبار ما جرى خلال تلك السنوات، بمثابة مرحلة انتقالية في فترة ما بعد التواجد العسكري السوري في لبنان، فإن تشكيل الحكومة التوافقية، والمصالحات التي بدأت منذ فترة بين الزعماء السياسيين اللبنانيين، إضافة إلى قرب انطلاق جلسات الحوار التي سيرعاها رئيس الجمهورية، يمثل إشعاراً بدخول لبنان في المرحلة الثانية التي يمكن أن تعيد التوازن إلى هذا البلد على الصعيد الداخلي أولاً، بمعنى عودة الحياة السياسية وتكريس صيغة الديمقراطية التوافقية والعيش المشترك، وعلى صعيد علاقات لبنان مع الخارج ثانياً، ولا سيما المحيط الجغرافي الأقرب سوريا، والأهم من ذلك موقع لبنان الدقيق ودوره في المعادلة الإقليمية المعقدة، وما تفرزه من صراعات سياسية حادة تأخذ طابعاً عسكرياً في بعض الأحيان (يوليو 2006 مثالاً).
لا شك أن لبنان السيّد الحرّ المستقل كان ولا يزال حلماً كبيراً يراود اللبنانيين، غير أن الواقع – حتى الآن على الأقل – يختلف كثيراً عن الحلم، بفعل معطيات التاريخ والجغرافيا وتفاعلاتها من جانب، والأوضاع السياسية القائمة على مستوى المنطقة وحضور لبنان البارز فيها من جانب آخر، ولا يقل أهمية عن ذلك، نمط النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية وتوزيع السلطات والحقائب على أساسها من أعلى هرم السلطة إلى أسفله.
مع ذلك، يعتبر الكثيرون أن لبنان هو النموذج الديمقراطي الأفضل في العالم العربي، وأن الحريات التي يتمتع بها اللبنانيون لا نظير لها في أي بلد عربي آخر. غير أن التحدي الأكبر والأهم أمام لبنان، كان ولا يزال يكمن في بناء دولة المؤسسات والقانون والمواطنة، وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إلغاء الطائفية السياسية، علماً أن اتفاق الطائف الموقع في العام 1989 نصّ على تشكيل هيئة لهذا الغرض.
صحيح أن هذا الموضوع شائك ومعقد ويحمل بعض المخاطر على الأمن والاستقرار إذا لم يتم بتوافق وطني، غير أن المناخ السياسي الراهن ملائم للبدء في الحوار من أجل تحقيق ذلك الهدف، لا سيما بعد دعوة الرئيس اللبناني ميشال سليمان في ذكرى الاستقلال إلى إلغاء الطائفية السياسية، واعتباره أن بناء الدولة في لبنان "يبرز الحاجة إلى تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية في البلاد"، مشدداً في الوقت ذاته على أن إقرار ذلك "يتطلب توافقا وطنيا". وإذا أضفنا إلى دعوة الرئيس سليمان النابعة من حسٍّ وطني عالٍ بلا شك، مواقف بعض الأقطاب المؤثرين في المعادلة السياسية في لبنان، مثل رئيس مجلس النواب ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، تتعزز إمكانية تحقيق ذلك الهدف الوطني بامتياز.
الرئيس اللبناني قال أيضاً "إن الشرط الضروري لإنشاء هيئة إلغاء الطائفية السياسية هو التوافق طبعاً، وذلك بعيداً عن المحاصصة، وعلى قاعدة توزيع المسؤوليات لا التنازع على الصلاحيات". وأشار إلى أن "فلسفة الكيان اللبناني قائمة على التوافق، وأن الاعتدال في لبنان شكل من أشكال البطولة، بعدما عانى طيلة عقود من آفات التطرف والاقتتال والتدمير والتهجير".
لا شك أن هذه الكلمات تدلّ على وعي سياسي عميق ورؤية سليمة حكيمة طالما افتقدها السياسيون اللبنانيون، ومن امتلكها وتبناها منهم لم يجد لها قبولاً كافياً لدى الطبقة السياسية القائمة على الزعامات الطائفية في مناخ من الاضطرابات والصراعات السياسية التي عصفت بلبنان طيلة عقود.
الفرصة الآن مواتية للسير باتجاه إلغاء الطائفية السياسية، وقد لا تتكرر، وعلى السياسيين اللبنانيين، وخصوصاً أصحاب القرار والوزن والتأثير، استثمارها، وتحمل مسؤولياتهم التاريخية، خاصة مع وجود رئيس توافقي وحكومة وحدة وطنية تحظى بدعم كبير على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لكن لا بد من التأكيد على أن إلغاء الطائفية السياسية لا يمكن أن يتحقق بمجرد تعديل في قانون أو نص دستوري، بل إن الخطوة الأولى تكمن في تجنب اللعب على الوتر الطائفي، والابتعاد عن الشحن والتحريض الطائفي والمذهبي لمصالح سياسية ضيقة، تتعارض تماماً مع مصلحة لبنان الشعب والوطن، بمعنى أن الطائفية يجب أن تلغى من نفوس اللبنانيين بالتزامن مع إلغائها من نصوص الدستور.
ولا يمكن أن نتجاهل هنا دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام، وما أكثرها في لبنان، فالعملية تنجح فقط عندما يقتنع اللبنانيون على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم بجدواها، ويتوافقون عليها، ويتجاوبون معها عن إيمان ووعي كاملين بأن خلاص لبنان لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال بناء دولة المؤسسات والمواطنة الحقيقية التي يتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات.
 

السابق
مخاوف بشأن محاكمة مبارك بعد منع بث جلساتها تلفزيونيا
التالي
حبيش: يصعب تصديق ما صدر عن الحكومة في انفجار انطلياس