غروب العصر الأميركي؟

دروب التاريخ ملتوية وأحياناً غريبة. ومراراً كانت طريق انحدار امبراطوريات شديدة البأس والنفوذ نحو الخواء تتبدى بوضوح فقط في وقت متأخر، عندما يوضع حد لعهد هيمنتها. هكذا مثلا ساد التقدير في العام 1914 بأن بريطانيا تعيش في ذروة قوتها وبأسها كقوة أعظم. من كان يصدق أنه خلال ثلاثة عقود فقط ستتحوّل أمبراطورية فخورة بنفسها إلى دولة من الدرجة الثانية، بعد أن استثمرت كل مواردها وذخائرها في الصراع ضد العدو النازي، ولهذا الغرض أيضاً رهنت قسماً كبيراً من أملاكها الاستعمارية؟ من كان يتخيّل أن فرنسا، صاحبة الرونق والأفكار، والتي أبدت روحاً قتالية في الحرب العالمية الأولى، ستنهار كبرج من ورق خلال خمسة أسابيع فقط في ربيع العام 1940 وتبدأ بذلك عملية غروب وتخل عن مواقعها وراء البحار؟

وحالياً الولايات المتحدة، التي أشرق مجدها كقوة أعظم وحيدة في النظام العالمي فقط قبل عقدين بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية. كان يصعب في وقت حدوث الأشياء ملاحظة معالم الطريق في مسار الاضمحلال. فقط بنظرة إلى الوراء تتضح منظومة العوامل التي بلورت هذه السيرورة، والتي بمعظمها تعيدنا في نفق الزمان مباشرة إلى عهد الرئيس بوش. ومن زاوية الرؤية هذه يمكن رؤية الرئيس أوباما كمن أسهم بغير قصد في تسريع الخطوات، التي كانت قد بدأت في تكدير سماء الأمة الأميركية وتهديد مكانتها المهيمنة. والحديث يدور أولاً وقبل كل شيء عن حرب الخليج الثانية، والتي منذ العام 2003 تشكل عبئاً ثقيلاً على المنعة القومية وعلى موارد المهيمن الأميركي. فالتطلع لإيصال البشرى الديموقراطية إلى الصحراء العراقية، والتي شكلت أساس القرار بشن الحرب على نظام صدام حسين الدموي، كان مناسباً من الناحية الأخلاقية.

غير أن محاولة تحقيق هذه الرؤيا في تفاصيل واقع، يشعر بغربة المؤسسات والسيرورات الديموقراطية تماماً عنه، سرعان ما تحوّلت إلى كابوس أساسه مواجهة متواصلة ومضنية في حلبة غارقة في تشرذمات عرقية، دينية وأيديولوجية. وهكذا فإنه فيما أدارت الولايات المتحدة في عهد كلينتون استراتيجية "الكبح المزدوج" الحذرة في الخليج، وهي الاستراتيجية التي أعدّت لضمان وجود توازن بين إيران والعراق يقوم على إضعاف الطرفين، قاد التدخل الأميركي في العراق في عهد بوش إلى الإخلال بهذا التوازن الدقيق وتحويل طهران الراديكالية إلى عنصر مهيمن في المنطقة، يمكنه أن يهدد الاستقرار الإقليمي بعد إكمال الانسحاب الأميركي من العراق. وليس هذا وحسب أن الحرب الباهظة التكلفة أسهمت في نمو الدين القومي، بل أضاف إليه في عهد بوش ميدان الحرب في أفغانستان، الذي استنزف ولا يزال موارد بشرية واقتصادية كبيرة. وإذا لم يكن هذا كافياً، فقد جاءت سياسة بوش الميزانية وأثقلت بأعباء مالية على كتفي العم سام، لأن تمسك الرئيس باستراتيجية تقليص الضرائب (بما في ذلك على العشرية العليا) سرعت أكثر عملية ارتفاع الدين لمستويات غير مسبوقة. وعلينا أن نضيف إلى هذا المزيج الأزمة المالية والاقتصادية الخطيرة، التي طرأت في أواخر عهد بوش على خلفية غياب الرقابة الفيدرالية المناسبة لسوق القروض العقارية، وهو ما فرض على الإدارة (وبعدها الرئيس الجديد في البيت الأبيض)

ضخّ مبالغ طائلة إلى الاقتصاد الأميركي المريض لإنقاذه من الانهيار الوشيك. العملاق جيلفر مقيداً إن ترابط كل هذه المتغيرات سيقودنا إلى الاستنتاج بأن البنية التحتية للتدهور الراهن أنشئت خلال السنوات الثماني التي سبقت دخول أوباما إلى البيت الأبيض. وعلى خلفية هذه العناصر والسيرورات، فإن خط التشخيص المركزي لعهد أوباما حتى الآن كان استعداد الرئيس للتكيف مع هذه الظروف والضواغط بشكل تام، وأيضاً التصرف في الحلبة الاستراتيجية والسياسية الكونية كلاعب ترك بعيداً خلفه عصره الذهبي. وهكذا، على سبيل المثال، تعهّد المرشح أوباما أمام شعبه الذي شبع حروباً بإنهاء التدخل العسكري المباشر في العراق وأفغانستان، والاستناد بدلاً من ذلك على "القوة الناعمة" حتى مقابل مخاطر تتهدد الأمن القومي الأميركي. وبالفعل، ورغم التعزيز المضاعف عام 2009 للقوات الأميركية في أفغانستان، فإن سيرورة الانفصال من طرف واحد عن تلك الدولة بدأت، في حين أن عملية الانسحاب العسكري من العراق تكاد تنتهي.

صحيح أن الولايات المتحدة بقيت، من ناحية الموارد العسكرية، منظومة التحالفات والعلاقات الاستراتيجية المتشعبة والعالمية، وأيضاً من ناحية قدرتها على إظهار القوة على كل المستويات بسرعة وفعالية في كل بؤرة أزمة محتملة، على الأقل نظرياً، قوة أعظم مهيمنة حتى اليوم. ولكن التصرفات الفعلية الأميركية توحي بأن يديها مكبلتان وهامش مناورتها يتقلص. فجيلفر العملاق، لكن المقيد، محروم من أية مجازفات أو استخدام مصادر قوته الاستراتيجية فعلياً، ولو من أجل ردع إيران وكوريا الشمالية المعاندتين والمتحديتين للنظام العالمي والاستقرار. وهكذا، فيما كنا شهوداً في فترة الحرب الباردة مراراً وتكراراً على استعراضات القوة الأميركية الحاسمة في الأزمات، عبر استعداد للمجازفة بل والسير على حافة الهاوية (كما في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962)، فإن أميركا الحالية تفضل بوضوح حكم الإغراء والتعويض على التهديد والعقاب، وسيرورة تحررها من عالم الأوهام والآمال الأولية الخادعة، التي طورتها في السياق الإيراني، لا تزال بطيئة ومترددة. وفضلا عن ذلك فيما أفلح رؤساء أميركا، في عصر الحرب الباردة وعالم القطبين، في توفير الدعم والرعاية لحلفائهم المهددين ليس فقط على الصعيد الأمني وإنما كذلك في رزم سخية من المساعدة الاقتصادية، التي سمحت (كما في مشروع مارشال العام 1947) لهم باعتلاء سكة الترميم، الاستقرار والمنعة الداخلية مقابل التحديات والمخاطر الكامنة، يعيش العم سام حالياً ضائقة اقتصادية شديدة. وكل ذلك فيما تزيد القيود والضواغط الداخلية مصاعبه حالياً في لعب دوره التقليدي كداعم اقتصادي شامل وكرافعة لتشجيع سيرورات التحديث، التطوير والاستقرار الاجتماعي والسياسي. وطابع الحد الأدنى لخطة المساعدات لمصر، التي أعلن عنها أوباما بفخار فقط قبل أشهر معدودة،

لا تشكل سوى ظل شاحب لـ"مشروع مارشال" الأصلي، وذكر هذا المشروع التاريخي ظل مرتبطاً بالخطة الحالية المقلصة جداً، يكاد يكون استخفافا بتراث مارشال. وهكذا، في مواجهة الهزات والتغييرات المفرطة، التي يعيشها الشرق الأوسط ذات الإلهام الأميركي، فإن الصورة البادية هي الضعف، القفز (الثورة المصرية)، العجز (كما في مواجهة دموية نظام الأسد)، أو التدخل البالغ المحدودية في الحلبة الأقل مناسبة (ليبيا). ومن هذه الناحية يبدو حتى أن الرئيس الـ44 استوعب بشكل جارف جداً الرغبات والقيود الداخلية التي وضعت أمامه، ومن البداية سلم بالمحتوم. فالتطلع إلى عدم التورط في مغامرة عسكرية أخرى قادت أوباما إلى التشديد على مبدأ العمل المشترك المتعدد الأطراف. وفيما لم ينتظر سلفه في المنصب بلورة إجماع دولي واسع قبل أن يرسل جيشه إلى الجبهة، يعمل الرئيس الحالي بشكل معاكس، فيه ما يشيع غموضاً حول مكانة أميركا كلاعب فوق الجميع. ليس فقط أن الإدارة الأميركية تتجنب عموماً أي قرار (مثلا استخدام الفيتو في مجلس الأمن)، يشذ عن هامش التوافق بين معظم مكونات الحلبة، وإنما في السياق الليبي فضلت عدم التواجد أبدا في موقع القيادة وأعطت الموقع لبريطانيا وفرنسا. والصحيح أيضا أن الرئيس كلينتون شدد على الحاجة إلى بلورة أطر تعاونية (تدخله في البلقان تم بغطاء من الناتو)، ولكن هذه المقاربة لم توح بالضرورة بالضعف ولم تحرم أميركا من خيار التدخل على أساس إنساني. وبالمقابل فإنه في مطلع حكم أوباما تبين أن الرئيس سلم من دون اعتراض بهذه الحالة، التي قزمت مكانة أميركا كلاعب قائد. وبالفعل، على خلفية مطالبات أوباما المتكررة لروسيا والصين باستخدام روافع تأثيرها على إيران وكوريا الشمالية، تلقينا الانطباع بأن الأمر يتعلق بمنظومة تكافؤية من الكوابح والتوازنات وليس بمنظومة هرمية لنظام عالمي تديره بمركزية قيادة أميركية. الكل بدأ بإصلاح كما أن خطوات أوباما في الشرق الأوسط شددت على "القوة الناعمة" والسعي لإنشاء ائتلاف سني واسع كرافعة أساسية لضمان الاستقرار في الخليج وكبديل لتفعيل القوات الأميركية. ومع ذلك فإن إسهام الرئيس في غروب العصر الأميركي لا يتلخص في أنه كيّف نفسه من دون نقاش مع روح المرحلة،

عبر تسليم بضواغطها. فالأخطاء الاستراتيجية الخطيرة التي اقترفها في العام الأول لولايته سرعت عملية التآكل هذه وقادت الولايات المتحدة إلى شفا هاوية الكف عن سداد ديونها وإلى الأيام القاتمة لتخفيض تصنيفها الائتماني للمرة الأولى في تاريخها. ويسري الأمر خصوصاً على خطته لإصلاح التأمين الصحي. فالسعي الدؤوب لتنفيذ هذا المشروع، الذي جاء على حساب تحقيق أهداف اجتماعية أخرى، أثار ردود فعل فظة وشديدة في أوساط اليمين الأميركي، الذي اعتبر هذه المبادرة محاولة للتنصّل من الإجماع الأميركي حول النزعة الفردية والتصرّف على أساس تجاري محض حتى في هذا الميدان. والحرب الثقافية المريرة التي نشبت على هذه الخلفية، زادت من تطرّف مواقف الحزب الجمهوري وقادت إلى الصعود الأسطوري لـ"حركة حفل الشاي"، التي نشأت داخل التيار الأيديولوجي – المحافظ في الحزب. وفي نهاية معركة مضنية، نجحت الإدارة حقاً في إقرار قانون الإصلاح، لكن الضغينة العميقة التي أثارتها الخطوة أسهمت في الانقلاب الذي حدث في مجلس النواب إثر الانتخابات النصفية في تشرين الثاني 2010. وفي هذه الانتخابات نالت "حركة حفل الشاي"، التي قادت صراعاً لا هوادة فيه ضد فكرة دولة الرفاه (المقتحمة للمجال الاجتماعي والتجاري الآمن)، إنجازات مذهلة. وبالفعل، فإن معسكر ممثلي وأنصار الحركة من داخل كتلة الأغلبية الجمهورية الجديدة في مجلس النواب كان من قاد المعركة الكبرى ضد الحزب الديموقراطي في الأسابيع الأخيرة في مسألة رفع سقف الدين القومي. وهكذا ارتد إنجاز التشريع المركزي على البيت الأبيض ضربة سرعان ما غدت سريعاً كابوساً له وللعالم بأسره. إذ أن اتفاق رفع سقف الدين، والذي تحقق فعلاً في اللحظة الأخيرة، عبر بقدر كبير عن المواقف الاقتصادية والاجتماعية لـ"حركة حفل الشاي"،

وهو ما قاد مباشرة للقرار التاريخي لإحدى وكالات التصنيف الرائدة لتخفيض التصنيف الائتماني لأميركا. فرفض الحركة العنيد قبول أو زيادة ضريبة على العشرية العليا كجزء من رزمة تسوية، سوف يقيد الإدارة في مساعيها المستقبلية لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الركود، وهو من أشار أكثر من سواه إلى المنظومة المالية العالمية بأن أياماً مريرة تنتظر المارد الأميركي المريض. وعلى هذه الخلفية لا ريب في أن الرئيس الـ44 أسهم في تعجيل سيرورة تآكل الإمبراطورية الأميركية، رغم أنه ليس خالق الأزمة. فانعدام قدرته على استشراف وتقدير أن مبادرة التشريع الأشد إثارة ستولد ردود فعل احتجاجية مفرطة (ستحوّله بعد 16 شهراً إلى رهينة لدى حراس أسوار اليمين الجمهوري)، وهذا ما أظهر أوباما كتكتيكي وليس كاستراتيجي، قادر على فحص الاعتبارات البعيدة المدى وليس فقط استغلال الفرص السياسية العابرة. وماذا عن الصين؟ ورغم حقيقة أن الشارات الدالة واضحة وقاطعة، وتشير إلى سيرورة غروب متسارع للعم سام خلال ولاية باراك أوباما في البيت الأبيض، إلا أن ذلك لا يعني أن الامبراطورية تستعدّ لمراسم نقل التاج. وليس فقط أن احتمال استمرار الهيمنة الأميركية، التي أثبتت قدرتها كما في أيام الركود الكبير على النمو والتجدد، لا يزال قائماً وأنها يمكن أن تفتح صفحة جديدة بعد انتخابات العام 2012، وإنما حتى إذا استمر التدهور الراهن، لا يمكن الاستنتاج بالضرورة أن الصين هي من سيحتل حتى نهاية العقد الجاري قمة الهرم العالمي (إلى جانب أميركا في نظام ثنائي القطبين جديد، أو بوحدانية وهاجة). والواقع أن نسب النمو المذهلة للمارد الصيني، إلى جانب نشاط بكين السياسي المتعاظم وأحياناً المهدّد في شرق آسيا، تشير إلى أن قدرتها الهائلة وتأثيرها بات يعبر عن نفسه في السياق الإقليمي. ومع ذلك من الخطأ الاستنتاج بشكل جارف ومتسرع جداً أن الصين تهرع نحو مقدمة الحلبة. ويرجع ذلك أولاً وقبل كل شيء إلى تخلّف الصين البارز عسكرياً مقارنة بالقوة الأميركية، التي لن تختفي في المستقبل القريب. كما أنها بمعايير أخرى للأمن القومي ومكونات القوة، لا تزال الفجوة كبيرة بين السيد الأميركي والقوة العظمى الصينية الصاعدة. بالإجمال، على المدى المتوسط على الأقل يمكن الافتراض أن مكان أميركا كلاعب أعلى وحيد في المنظومة العالمية يمكن أن تحتله مجموعة قوى وكتل (بما فيها الصين، روسيا، الهند وكتلة الدول الأوروبية)، والتي سوية مع العم سام ستتطلع لبلورة نظام عالمي متعدد الأقطاب جديد، يستند إلى توازنات متبادلة بين مكوناته المختلفة. وبديهي أن ذلك بافتراض أن الرجل المريض لن يجد دواء لمرضه وآلامه وأنه سيواصل التدهور نحو الغروب

السابق
قبيلة أمازونية اختفت فجأة
التالي
أسهم أوباما