المسحراتي في حارات صيدا القديمة.. صامدة

داخل أحياء صيدا القديمة، يصدح صوت المسحراتي: «يا نايم وحّد الدايم… قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم»، ينقر على طبلته كل ليلة من ليالي رمضان ليوقظ الصائمين الى سحورهم.
بفرحة كبيرة يستقبل الصيداويون المسحراتي محمد الفنّاس، «الختيار» الستيني، وهو من القلائل الذين يجوبون حارات المدينة، ولا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، وما زالوا يحافظون على حضورهم وعلى هذا التقليد، على الرغم من اجتياح التكنولوجيا المتطورة والمنبّهات الالكترونية كل بيوت لبنان.
إلا أن طبلة المسحراتي الفنّاس لها وقع خاص على مسامع أهالي الحارات القديمة في مدينة صيدا، ينتظرونها مع كل موعد سحور، حيث يبدأ جولته من الثانية بعد منتصف الليل إلى الرابعة فجراً، حيث ينتظرون الردّيات وإنشاد بعض القصائد والتواشيح الدينية.
بعدما ينهي استعداداته لهذه المهمة، يقوم الفنّاس بما يشبه التمرين على الأداء والصوت، ثم يرتدي زياً تقليدياً هو عبارة عن عباءة وشملة وقبعة خضراء، ويحمل فانوسه ويتفحصه لمواجهة الظلمة التي تلفّ بعض الأحياء، نظراً للتقنيين القاسي في توزيع التيار الكهربائي.
يقول الفنّاس الذي بدأ بهذه المهمة منذ كان عمره 15 عاماً، بأنه يكاد لا يمر قرب منزل إلا وتضاء أنواره، في حين يحرص بعض الأهالي على تقديم الطعام والشراب والحلوى، أما أصحاب المخابز والأفران فيقدمون له المناقيش الساخنة. لافتاً إلى أن دوره كمسحراتي بات في دائرة الإندثار لكنه يقول: «ما يجعلني متمسكاً بالتطبيل في رمضان هو المحافظة على تقاليد هذا الشهر».
ولا يخلو «تطوّع» العم الفنّاس من بعض المخاطرة، حيناً خلال ظلمة الليل، ومن بعض المراهقين الذين يريدون ممازحته فيلقون عليه المفرقعات مختلفة الأحجام والأنواع، بيد أنه يواصل عمله قائلاً: «سامحهم الله، لقد اعتدتُ على هذا النوع من المزاح الثقيل».
ويقول أبو محمد المصري، وهو من أهالي صيدا القديمة: «لقد اعتدنا على المسحراتي، وأصبح جزءاً من رمضان، جميلٌ أن يستيقظ الانسان على التواشيح الدينية والأدعية والطبلة».
ويواظب الرجل على تطوعه كل ليلة على الرغم من اقتناعه بأن مايقوم به بات تراثا أكثر منه إيقاظاً للناس، حتى رؤية هلال العيد على الرغم من أنه لا يطلب أجراً، إلا أن بعض المحسنين يجودون عليه «بالعيدية» فيفرح ويصمم على مواصلة تطوعه في العام المقبل وهو يقول: «كل عام وأنتم بخير».
المسحراتي عبر التاريخ
في مكة، كان «الزمزمي» ينادي من أجل السحور، وكان يتّبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منه قنديلان كبيران، حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع نداءه من فوق المسجد.
ثم تعدّدت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتُكِرت وسائل جديدة، فظهرت مهنة «المسحراتي» في عصر الدولة العباسية، في عهد الخليفة المنتصر بالله، ويذكر المؤرخون أن المسحراتي ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر «عتبة بن إسحق» أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحور، وكان ذلك عام 238 للهجرة، حيث كان يطوف على قدميه سيراً من مدينة إلى أخرى.
وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويقرعوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين من أجل السحور، ومع مرور الوقت جرى تخصيص رجلٍ للقيام بمهمة المسحراتي.
تطوّرت بعد ذلك ظاهرة التسحير علي يد أهل مصر، حيث ابتكروا الطبلة، يحملها المسحراتي ويضرب عليها بدلاً من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تسمى «بازة»، وهي صغيرة الحجم، ثم تطوّرت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يضرب عليها أثناء تجواله في الأحياء والآزقة، وهو يشدو بأشعار شعبية وزجلٍ خاصٍ بهذه المناسبة، ثم تطوّر الأمر إلى أشخاص معهم طبل بلدي وصاجات برئاسة المسحراتي، يقومون بإنشاد أغانٍ خفيفة، وقد شارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة.

السابق
جوزيف المعلوف: بيان القوات عن حادثة اهدن يضبط الشارع تخفيض السنة السجنية ليس حلا جذريا للموضوع
التالي
فنانات الصورة… بلا صوت