ما وراء تظاهرات بريطانيا

بعيدة هي المسافات بين بريطانيا والشرق الأوسط. لكن الأمر لا يقتصر على المسافة الجغرافية، فالتظاهرات التي ما زالت تعصف بالمدن البريطانية لا تحمل أياً من الصفات الإيجابية التي اتسمت بها انتفاضات الربيع العربي. الحشود التي خرجت إلى ميدان التحرير في القاهرة، وشوارع مدينة حماه في سوريا، تحركت بدافع مختلف، وهو إسقاط الحكام الفاسدين، في حين أن الشباب الذي هبّ في لندن لم يكن مهتماً سوى بسرقة ما تحويه المتاجر من أجهزة تلفاز وملابس… قادة التظاهرات في الدول العربية يتحدثون انطلاقاً من رغبتهم في بناء نظام ديموقراطي جديد، في حين أن أيديولوجية المتظاهرين البريطانيين تُختزل بما قالته شابتان لهيئة الإذاعة البريطانية («بي بي سي»)، وهو أنهما تريدان أن يعلم جهاز الشرطة والناس الأغنياء «أننا نستطيع أن نفعل ما نشاء».
قد يكون باستطاعة المرء أن يجد صلة ما بين الشبان المحبطين الذي تجمعوا أمام مراكز الشرطة في شمالي لندن السبت الماضي، للتعبير عن غضبهم من قيام ضابط في الشرطة بقتل رجل أسود البشرة في التاسعة والعشرين من العمر، وبين أولئك الذين أطلقوا العنان للتظاهرات في بلدة سيدي بوزيد في تونس، تضامناً مع بائع الخضار الشاب الذي أضرم النار في جسده. ثمة قواسم مشتركة بين الجانبين: البطالة، الاستياء من الطبقات الثرية، والكراهية للشرطة. في بريطانيا، تماماً كما في بعض الدول العربية، ما زال التوتر العرقي والأثني من بين العوامل التي تغذّي الغضب الشعبي.
لا تقتصر القواسم المشتركة على المتظاهرين، ففي بريطانيا، كما في الشرق الأوسط، فوجئ القادة السياسيون بهذا الوضع المتفجر. بدأت التظاهرات في بريطانيا من أمام مركز للشرطة في برمنغهام، وامتدت إلى مدن أخرى خلال الأيام التي تلت انطلاق الشرارة الأولى. لكن أولئك الذي يعيشون في المدن التي تشهد الاضطرابات أو تلك المجاورة لها، أو أولئك الذين يعملون مع شباب تلك الأحياء المنتفضة، يؤكدون أن الغضب كان يختمر في أوساط المهمشين منذ فترة طويلة، في الوقت الذي تجاهلت فيه الأحزاب السياسية في البلاد مشكلة في غاية الخطورة، وهي مشكلة الطبقات الاجتماعية الدنيا.
لكن الرد البريطاني على الاضطرابات كان مختلفاً عن ذاك الذي اعتمد في الدول العربية. حتى مساء الثلاثاء كانت الشرطة قد اعتقلت المئات، لكنها لم تقتل أحداً. في اليوم الرابع فقط بدأت السلطات تناقش مسألة استخدام خراطيم المياه أو الرصاص المطاطي. رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وعمدة لندن بوريس جونسون قطعا اجازتهما وعادا إلى المدينة، فيما دعا السيد كاميرون البرلمان إلى عقد جلسة خاصة لمناقشة الوضع. وفيما ارتكز الخطاب الرسمي في التعامل مع التظاهرات إلى التوصيف الذي اعتمدته وزيرة الداخلية تيريزا ماي، وهو «الإجرام غير المقبول»، لكن أصواتاً من خارج الحكومة أطلقت في المقابل نقاشاً حول الأسباب العميقة للتوتر، والذي أسمته صحيفة الغارديان «انفجار الغضب»، و«الفشل المتعدد الأوجه».
لعلها سنة الثورات لمن سلبت حقوقهم، البداية كانت في الدول العربية، ومن ثم في إسرائيل، والآن في واحدة من اغنى الديموقراطيات في العالم. في زمن التشوش الاقتصادي لا دولة محصنة ضد ثورة كهذه. لكن بريطانيا أظهرت أن الديموقراطيات يمكن أن ترد بسياسات مسؤولة ونقاش سياسي جدي، ربما ضعيفة في مواجهة المرونة السياسية واحترام حقوق الإنسان اللذين يفتقدهما الحكام العرب المستبدون.

السابق
من يبدأ الحرب هذا الخريف: إسرائيل أم سوريا؟!
التالي
حماس تمتلك صواريخ ضدّ الطائرات