حول أحداث الشغب في لندن

عصفت أعمال الشغب في العاصمة البريطانية بولاية توتنهام وضاحية إيلينغ ومدينة هاكني ومنطقة نوتينغ هيل الراقية. لقد تحطمت النوافذ وسرقت كاميرات الفيديو واشتعلت السيارات. احتشد شباب ملثمون يرتدون بلوزات مقلنسة في نواصي الشوارع وهاجموا رجال الشرطة. وقد تبعت ذلك أعمال شغب مماثلة في مختلف أنحاء بريطانيا، بدءا من بريستول حتى نوتينغهام. ولا أحد يعرف سببها على وجه التحديد.
إذا تفحصت صفحات التعليقات على أحداث الشغب في الصحف البريطانية، فستجد نطاقا واسعا من التفسيرات. اقرأ صحيفة الـ«ديلي تلغراف» اليمينية، وسترى أن أسباب أعمال الشغب هي وجود قوة شرطة ضعيفة وجبانة، وغياب الآباء، والاعتماد على الإعانات الاجتماعية وتعدد الثقافات.
أما إذا طالعت صحيفة الـ«غارديان» اليسارية، فستجد أن وحشية الشرطة والحرمان الاجتماعي والتخفيضات في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء هي العوامل التي يلقى عليها اللوم في أحداث الشغب الأخيرة. ولدى البعض قناعة بأن ارتفاع مستويات الهجرة هو السبب الرئيسي وراء أحداث الشغب. ويرى آخرون أن المشكلة تكمن في عدم تقبل بريطانيا للمهاجرين والأقليات.
لا يوجد سبب للتعارض، فمثيرو الشغب أنفسهم لم يلوحوا بأي لافتات ولم يرددوا أي هتافات أو شعارات. كما أنهم لم يتظاهروا ضد أي سياسة حكومية معينة، مثلما حدث في مظاهرات الطلاب في لندن الشتاء الماضي. كذلك، لم يسعوا لترويج آرائهم، إن كانت لديهم آراء أصلا. إنهم يختبئون عن أعين الكاميرات ويتجنبون الصحافيين. ومن ثم، أصبحوا بمثابة بقعة الحبر في نوع من أنواع اختبارات روسكاتش الوطنية، كل شخص يرى فيهم القضية السياسية التي تهمه أكثر من غيرها، سواء تمثلت في الاعتماد على الإعانات الاجتماعية أم التخفيضات في الميزانية أم تدني مستوى التعليم الحكومي أو – القضية المفضلة بالنسبة لي – ظهور ثقافة عامة مبتذلة وغير أخلاقية.
غير أن افتقارهم للسياسات المحركة هو أبرز سمة تميزهم. فإذا كان المصريون في ميدان التحرير قد أرادوا الديمقراطية، ومثيرو الفوضى في أثينا رغبوا في زيادة النفقات الحكومية، فإن الرجال الملثمين في الشوارع البريطانية لم يريدوا سوى الحصول على تلفزيونات «إتش دي» بشاشة مسطحة 46 بوصة. إنهم لا يحطمون مقار حزب المحافظين، بل يحطمون متاجر الملابس. وبدلا من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في إنشاء مجتمع مدني أو مدينة فاضلة افتراضية، يستخدمونها في السرقة. أرسل أحدهم رسالة نصية، ليلة الاثنين، يدعو فيها أصدقاءه إلى الذهاب لوسط لندن لـ«مجرد الترهيب والتدمير والسرقة.. فقط حطموا واجهات المتاجر وخذوا كل ما شئتم»!
وبعيدا عن السرقة، فقد خرج كثير من مثيري الشغب – بل ربما معظمهم – لقضاء وقت ممتع. لا تنخدع بالتعليقات شديدة اللهجة التي تنبس بها شفاههم؛ فبدءا من الثوار الفلاحين في العصور الوسطى إلى لاعبي السوكر في العصر الحديث، هناك تقليد قديم ممثل في تحطيم الأشياء لمجرد الاستمتاع في بريطانيا، والمجموعات التي تستمتع بمثل هذا الفعل موجودة في بريطانيا منذ فترة طويلة. ولا تمهل الشرطة معظمهم وقتا طويلا لإحداث قدر كبير من التدمير. ففي صبيحة الأربعاء، اعتقلت قوات الشرطة 768 شخصا، وفقا لمحطة «بي بي سي»، واتهمت 105 على خلفية أحداث العنف التي شهدتها العاصمة. وطوال الليل، ظلت لندن هادئة للمرة الأولى منذ بدء أحداث الشغب، الأسبوع الماضي.
إنني لا أستثني التفسيرات الأخرى المحتملة، التي قد يستحق الكثير منها بحثا وتحقيقا مستفيضا، حتى لو لم تكن أعمال الشغب هذه قد وقعت مطلقا. إن الحالة الاجتماعية، حقيقة، قد خلفت لدى جيل من الشباب شعورا بالاعتماد التام على الإعانات الحكومية والأحقية في المزيد منها. وقد أسفر نظام التعليم الحكومي السيئ عن حالة من الأمية على المستوى العملي لدى خمس المراهقين. ويشير الاقتصاد البطيء إلى أن كثيرين لن يجدوا وظائف مطلقا، ومن ثم، لن يندمجوا مطلقا في المجتمع. إن وجود نخبة أثرياء ومليارديرات في لندن يشير إلى أن هناك فجوة اقتصادية متسعة بشكل غير معتاد بالنسبة لدولة متقدمة.
تحقق صحافة التابلويد نجاحا بمتابعة أخبار الأثرياء والمشاهير غير المثقفين الذين يحظون بإعجاب الجماهير. وفقدت المؤسسات التقليدية – النظام المدرسي والكنائس، بل وحتى إذاعة «بي بي سي» – منذ فترة طويلة قدرتها على إرساء القيم الأخلاقية القديمة. وقد لطخت سلسلة من الفضائح مؤخرا سمعة البنوك والبرلمان ووسائل الإعلام، حتى الشرطة البريطانية بصورة أكبر.
غير أنه كانت هناك أعمال نهب وسرقة في لندن في أعقاب حريق لندن الكبير في عام 1666، وعلى الرغم من المعتقدات القديمة، فإنه كانت هناك أعمال نهب في لندن إبان قصف إنجلترا في الحرب العالمية الثانية. عد إلى الماضي واقرأ روايات ديكنز، ستجد أن المجرمين، سواء من المهاجرين أو من البريطانيين الأصليين، قد استغلوا الفرص للنهب والسرقة في لندن أثناء الأوقات السلمية أيضا. وربما تكون مجموعة معينة من الظروف – غضب الجمهور من حادث قتل على يد الشرطة أو فترة مفاجئة من الطقس الدافئ أو ذهول قوة شرطة غير مستعدة من الفضيحة غير المتوقعة، وبالطبع، الانتشار الواسع للهواتف الذكية بين الطبقات المحرومة – قد أتاحت لهم القيام بمثل هذه الأعمال مجددا.
توخ الحظر من التعميمات السياسية واسعة النطاق في أعقاب هذه الأحداث، فنحن لا نعلم ما إذا كنا نشهد ظاهرة «جديدة» أم مجرد صورة أكثر حراكا، وأكثر براعة من الناحية التكنولوجية، لظاهرة قديمة جدا.

السابق
عين على نشر القرار الاتهامي وأخرى على مذكرات التوقيف
التالي
معهد اسرائيلي ينتج سم الإغتيالات الصامتة !!!