كهرباء الأكثرية

لا شك في أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أطول من الرئيس السابق سعد الحريري، وهو بكل الاحوال أخف ظلّاً، وأجمل طلة، واكثر قدرة على التعبير، وحريص على خطاب اخلاقي مدرسي لم يجده سعد، وحتى إن اختيار الميقاتي لربطات العنق أكثر توفيقاً من سابقه. لا تقف الأمور هنا، بل إن الوجه البريء الذي يتحلى به الميقاتي وابتسامته الطفولية لا يمكن ان تقارن بابتسامة سعد التي لا يمكن ان توحي بالطفولية والبراءة ولا حتى بالذكاء، ثم إن ميقاتي يفوق سعد ثروة، ونجاحاً في ادارة الاعمال الخاصة، وهو اكثر تواضعاً ولا شك، ويملك حس سخرية اصيلاً، يفتقده سعد الى اقصى حد.

لكن لم تكن هذه الاسباب التي ادت بالمعارضة السابقة الى إطاحة سعد الحريري، وحكومات العائلة الحريرية المتعاقبة منذ نحو العقدين.
يفترض انه خلال الصراع السياسي الذي دار في البلاد على خلفية الموقف من موقع لبنان في المنطقة، ودوره في المقاومة، تم تسجيل العديد من المآخذ على الحريرية السياسية، التي اكتفت بتحويل البندقية سياسياً من الكتف السورية الى الكتف الاميركية.

القوى المعارضة للحريرية السياسية طرحت اقوى حججها وشعاراتها بوجه الحكومات المتناسلة خلال المرحلة الماضية كلها، وخاصة مرحلة ما بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري بناءً على ملاحظات اقتصادية اجتماعية، وركزت خصوصاً على «اسلوب ادارة الدولة» والمشاريع الناتجة من هذه الادارة.

طرحت المعارضة (السابقة) ضرورة تقديم مشاريع وخطط للنهوض الاقتصادي، وبرامج عمل لمختلف القطاعات، وكانت احدى النقاط المشرقة الموقف (المعترض بخجل أحياناً) على الخصخصة، بصفتها مدخلاً الى استيلاء مافيات الحريري المالية على مرافق القطاع العام، ونهب القطاعات الخدماتية واستنزاف جيب المواطنين.

لكن حين أطيحت حكومة الحريري الاخيرة، بدأت الأكثرية الجديدة باعتماد الممارسة نفسها، بل قل بمواصلة ممارسة فؤاد السنيورة (التاريخية التي انطلقت من وزارة المال وتعممت) في ادارة الوزارات، مع فارق جوهري هو انعدام الموهبة لدى الاكثرية الجديدة وقلة خبرتها في هذه الممارسة.

هذا الجانب ظهر جلياً يوم أول من أمس حين حضرت الحكومة بمشاريعها ومطالبها امام مجلس النواب، وطلبت لوزارة الطاقة مبلغ مليار و200 مليون دولار، بدل أن تطلب الحكومة، إذ لا موازنة مقرة بعد، مبلغاً لمصلحة خطة بناء على برنامج تطوير الكهرباء المتكامل، سلفة سنوية واضحة تجاه الصرف.

وظهر جلياً يوم أول من أمس أيضاً، أن الاكثرية الجديدة مشكلة من «زواج متعة» (وللتوازن الطائفي «زواج مسيار»). فالمصالح متضاربة حد التعارض والتناقض، فهي لم تعد النظر في اي من مشاريع ومواقف ورجالات الحكومات السابقة، ولم يعترض اي من ألوانها، سواء اكان حزب الله ام حركة امل ام التيار الوطني الحر، ام رئيسها، على وجود رجالات تيار المستقبل في الادارات العامة، وخاصة اولئك الذين نكلوا بالاكثرية الحالية حين كانت معارضة، مستخدمين كل الوسائل التي اتاحتها لهم الوظيفة العامة لمصالح سياسية وشخصية.

لم تقدّم الاكثرية الجديدة حين وصلت الى السلطة اي برنامج، او مشروع، او خطة، في اي من القطاعات في البلاد، وأخذت السلطة وكأنها ستنقذ البلاد، امتنعت حتى عن تقديم وعود بإصلاحات قطاعية، او تطوير البنى التحتية في البلاد، دون ان نطمح إلى أن نطالبها بمحاسبة المرتكبين، او وقف الهدر والفساد.

كل ما قدمته الحكومة الحالية هو خطاب سياسي سقفه اقل ارتفاعاً عما كان يعرضه سعد الحريري خلال مراحل حكمه الاخيرة، وراح من يخالف يتحجج بأن تقديم اي مشروع الى مجلس النواب حالياً يعني تخريبه، لكون اغلب النواب سيقومون بالعمل إما من منطلقات كيدية، او بناءً على مصالحهم (ومن اتى بهم الى الكرسي) المالية المباشرة.

لكن عدا الاتفاق السياسي الهش بين اركان الاكثرية بمواجهة مرحلة المحكمة الدولية، ووقف الضغط على المقاومة، وحملات العداء ضد النظام في سوريا، عدا هذه النقاط فلا شيء يجمع الحكومة الحالية، ولا القوى التي شكلتها، فلا الرؤية الاقتصادية موحدة، ولا المصالح المالية متقاربة.
في تهرب الاكثرية الجديدة من مراعاة القوانين تحت شعار عدم تخريبها، خروج على اصول الحكم وضعف في مواجهة آليات الحكم، ومحاولة الوصول الى تحقيق المشاريع (مع الحفاظ على نسب الفساد والهدر) دون اصلاح هيكلي في الدولة.

وفي احباط مشاريع كمشروع الكهرباء محاولة اضافية لفرض التخصيص او تحرير القطاعات الرئيسية في الاقتصاد لمصلحة المستثمرين من جحا وأهل داره.
كهرباء الأكثرية تشبه كهرباء الأقليّة، لكن ربطة العنق اليوم افضل وأجمل.

السابق
سورية: حسم ورسائل حازمة
التالي
السفير: واشنطن تريد دعماً دولياً قبل المطالبة بتنحي الأسد توافق أميركي ـ تركي على «الانتقال إلى الديموقراطية»