الطريق إلى العبودية والثورة العربية

لو كان الخبير الاقتصادي النمساوي العظيم الراحل ف. أ. حايك حياً، لأدرك منذ البداية أن الربيع العربي هو ثورة اقتصادية. فطوال أجيال، قايض العرب حرّيتهم السياسية بالحماية الاقتصادية. وتمرّدوا عندما تبيّن لهم أن المقايضة لم تنجح، وأن نظام الإعانات والوعد بالمساواة الذي قطعه الأوتوقراطيون قد مُنيا بفشل ذريع.

"الطريق إلى العبودية"، بحسب التسمية التي أطلقها حايك، بدأ في العالم العربي عندما أطاحت طبقة سياسية وعسكرية تسلّمت السلطة العليا في خمسينات وستّينات القرن العشرين بنظام التجّار ومالكي الأراضي القديم. كان الضبّاط والأيديولوجيون الذين وصلوا إلى الحكم في مصر وسوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن يحتقرون السوق والحرّية الاقتصادية. كانوا يتحدّرون عموماً من الطبقة الدنيا ولم يكونوا يأبهون لحرمة الثروة والأملاك. جاؤوا لتدمير النظام الاقتصادي الذي كان سائداً، وتسبّبوا بهروب طبقات التجّار والأشخاص الذين كانوا عماد الاقتصاد الحر.

في الخمسينات، طُرِدَت الأقلّيات الأجنبية التي كانت تحتلّ مكانة مرموقة في الحياة الاقتصادية في مصر بعد طفرة القطن في ستّينات القرن التاسع عشر، والتي كانت أدخلت البلاد في شبكة الاقتصاد العالمي. وقد أخذ اليهود واليونان والإيطاليون مهاراتهم وعاداتهم معهم. لم تكن الطبقة العسكرية والاشتراكيون الحذرون حولها، يثقون بالتجارة الحرّة والسوق، وكانوا مصمّمين على السيطرة عليهما أو الحكم من دونهما.

وقد ساهم الأسلوب المصري في قلب الميزان ضد القطاع الخاص في أراضٍ عربية أخرى أيضاً. في العراق، جُرِّد اليهود الموجودون هناك منذ ما يزيد عن ألفَي عام، من ممتلكاتهم وأُبعِدوا من البلاد في 1950-1951. كانوا قد أتقنوا تجارة التجزئة وكانوا الجالية الأكثر نشاطاً في التجارة في بغداد. تقدّم بعض التجّار الشيعة لتأدية هذا الدور مكان اليهود، لكن ذلك لم يدم طويلاً. فقد سيطر الضبّاط العسكريون وأيديولوجيو "حزب البعث" في "المثلّث السنّي" – والذين كانوا متعطّشين للثروة والسلطة – على مقدّرات البلاد وثروتها النفطية.

كانوا، على غرار نظرائهم في مصر، يؤمنون بالتخطيط المركزي و"المساواة الاجتماعية". وبحلول ثمانينات القرن العشرين، اعتبر صدام حسين، وهو سفّاح سنّي نشأ في فقر مدقع، أن ثروة البلاد هي ثروته الخاصّة. وفي ليبيا، تفوّق معمر القذافي المضطرب عقلياً على صدام حسين في هذا المجال. فبعد الانقلاب العسكري الذي نفّذه عام 1969، دمّر القطاع الخاص عام 1973 وأنشأ ما سمّاه "الاشتراكية الإسلامية".

كتب حايك في رائعته Road to Serfdom (الطريق إلى العبودية) الصادرة عام 1944، أنه في المجتمعات التوتاليتارية المدمِّرة للحرّية "يصل الأسوأ إلى المراتب العليا". وكتب بكلمات تصف أوروبا في زمانه إنما تنطبق على الظروف العربية المعاصرة "كي يكون المرء معاوناً مفيداً في إدارة دولة توتاليتارية، لا يكفي أن يستعدّ لقبول تبرير خادع لأفعال دنيئة؛ بل يجب أن يكون هو نفسه مستعدّاً لينتهك فعلاً كل القواعد الأخلاقية التي عرفها في حياته إذا بدا ذلك ضرورياً لتحقيق الغاية المحدَّدة له. بما أن القائد الأعلى هو الذي يُحدّد منفرداً الغايات، يجب ألا تكون للأدوات التي يستخدمها اقتناعاتها الأخلاقية".

يصف هذا جيداً ديكتاتورية حافظ الأسد الهمجية التي استمرّت عقوداً في سوريا، ثم حُكم ابنه بشار الآن. يقال إن راتب حافظ الأسد عند بداية حكمه لم يكن يزيد كثيراً عن راتب ضابط متواضع. أما الآن فتملك عائلته ثروة طائلة: يسيطر آل مخلوف، أصهار عائلة الأسد، على قطاعات أساسية في الاقتصاد السوري.
كان العلويون، وهم الطائفة الدينية التي ينتمي إليها آل الأسد، فلاّحين فقراء ومزارعين يعملون في الأرض مقابل جزء من المحصول، بيد أن السلطة السياسية والعسكرية رفعتهم إلى مستويات جديدة. أُرغِم التجّار في دمشق وحلب، ومالكو الأراضي في حمص وحماه، على الخضوع للنظام الجديد. فإما يتأقلمون مع اقتصاد الابتزاز ويسمحون للضباط العلويين بالتدخّل في أعمال تجارية قائمة منذ وقت طويل وإما يُنحّون جانباً.

لكن قبل حوالى عقد، بدأت هذه الصفقة الحاكِمة – الإعانات وإعادة التوزيع الاقتصادية في مقابل الإذعان الشعبي – تتداعى. تضخّمت أعداد السكّان في العالم العربي، وأصبح من المستحيل عملياً تأمين وظائف للشباب وغير المتعلّمين جيداً. لقد خانت القومية الاقتصادية والحرب على السوق، العرب. أصبحوا يعانون من مستويات البطالة الأعلى بين الدول النامية، ومعدّلات البطالة الأعلى لدى الشباب، ونسب المشاركة الاقتصادية الأكثر تدنّياً لدى النساء. كان النظام السياسي العربي يعيش في الوقت المستعار، ويتغذّى من الخوف من الإرهاب الرسمي.

بُذِلت محاولات من أجل "الإصلاح". لكن في قوس الاقتصادات العربية، أصبح القطاع العام في نظام ما القطاع الخاص التابع للنظام التالي. وهكذا انتقل أبناء الحكّام وأصهارهم وأبناء أشقّائهم وشقيقاتهم بسلاسة إلى السوق المزوَّرة عندما فُرِضَت "الخصخصة" بالقوّة على الشركات التي تعاني من الركود. بالتأكيد، لم يكن هذا الوضع يشبه في شيء الاقتصاد الذي يُحفّزه السوق في منظومة شفّافة. كان هذا أسوأ نوع من رأسمالية المحسوبيات، وقد رأته الشعوب العربية على حقيقته. في الواقع، هذا النهب الاقتصادي هو الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انقطاع الرابط بين حسني مبارك والشعب المصري المعروف بصبره واتزانه على مرّ الأزمنة.

الحقيقة المؤسفة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي هي أن إصلاحات السوق الحرّة والتحرير الاقتصادي التي صنعت شرق آسيا وأميركا اللاتينية من جديد، تجاوزت العالم العربي. هذا هو التحدّي الكبير للربيع العربي والقوى التي تقف وراءه. لم يكن للسوق سوى القليل من المدافعين العرب، هذا إذا وُجِدوا. إذا كانت الانتفاضات الهائلة التي تشهدها الأراضي العربية مدفوعة برغبة في الاستيلاء على السلطة – والامتيازات الاقتصادية التي تترافق مع السلطة السياسية – فسوف تعيد الثورة إنتاج إخفاقات الماضي.

عبّر مدرّس يمني يدعى أماني علي أنهكه الفقر والفوضى في تلك الدولة العربية الأشد فقراً، عن شعور كان يشكّل الدعامة للأوتوقراطيين، فقد قال "لا نريد التغيير، لا نريد الحرّية. نريد الطعام والأمان". لن يبلغ العرب الحكمة الحقيقية ويضعوا حداً لطريقهم إلى العبودية إلا عندما يقيمون الرابط بين الحرية الاقتصادية والسياسية.

السابق
الانفجار يستهدف سيارة لاحد القضاة نحمل الرقم 29592 وسقوط قتيل وجريح في حالة خطيرة
التالي
السيارة قد تكون للقاضي الآن البير سرحان