الأوهام القاتلة

يعمل الحكم السوري على مستويين متزامنين من أجل أن يستعيد سيطرته السابقة على البلاد، تلك السيطرة التي مارسها طيلة عقود وحتى اندلاع حركة الاحتجاجات قبل زهاء خمسة أشهر.

المستوى الأول أمني – عسكري، قوامه نوع من إعادة «احتلال» لمناطق الاحتجاج. وتعبير «احتلال» تبرره الوسائل العسكرية الضخمة المستخدمة في هذه العمليات، والخسائر البشرية والمادية التي تنزلها في هذه المناطق.

المستوى الثاني سياسي – ديبلوماسي على الطريقة السورية التقليدية، قوامه إعادة صوغ إعلامية للتجارة السياسية السابقة التي سمحت باستمرار السيطرة طيلة العقود السابقة.

وفي الحالين، ثمة رهان خاطئ هذه المرة على إمكان ان تنجح الوسيلتان في تحقيق غرضهما. اذ ان الظروف التي ساعدت في نجاحهما في السابق تغيرت تغيراً جذرياً، سواء بالنسبة الى الداخل السوري أو الخارج الاقليمي والدولي، والذي استقى منه الحكم صدقية مكّنته من ضبط هذا الداخل.

ولعل الوهم الكبير الذي يراود صاحب القرار في دمشق هو اعتبار ان الفعل في ذاته يؤدي الى النتيجة ذاتها، مهما تغيرت المعطيات. وربما تكون تجربة حماة في 1982 نموذجاً يهتدي به صاحب القرار. فبعد تلك الحملة العسكرية ساد الهدوء في كل انحاء سورية حتى منتصف آذار (مارس) الماضي. فاعتبر صاحب القرار ان تكرار الحملة يعيد تكرار عودة السيطرة. وذلك من غير اعتبار لظروف الحملة على حماة التي انحصرت في هذه المدينة مع امتدادات محدودة، وموقف الشعب السوري من التحدي الاسلامي الذي مثّله «الاخوان» آنذاك، بغض النظر عن الاستغلال السياسي اللاحق لهذا الاتفاف الشعبي. واليوم يعني تكرار حماة من اجل استعادة السيطرة الاضطرار الى حملات عسكرية على غالبية المدن السورية وأريافها. وهذا لا يعني استعداء شرائح واسعة جداً من الشعب فحسب، وانما يعني ايضاً رهاناً خاطئاً على إمكان النجاح عسكرياً في هذه المهمة. وحتى لو نجحت الدبابات والمدرعات في التقدم هنا او هناك، مع ما يرافق ذلك من قتل واعتقال وتدمير، فإنها ستفشل في اعادة فرض الرهبة والخوف والصمت، كما تدل كل الظواهر المرافقة للاحتجاجات منذ اندلاعها.

سياسياً، عمد الحكم السوري الى تغيير حكومي، بعيد اندلاع الاحتجاج، وتغيير محافظين ونقل مسؤولين امنيين، وتغيير وزير الدفاع في هذه المرحلة، وربما غيره لاحقاً. وذلك في اشارة الى تحميل المسؤولية لجهات تنفيذية على مستويات ادنى. وأرفق ذلك باعلان اصلاحات، ربما موجهة الى الخارج لأنها لا تشكل أي تعديل فعلي في الوضع القائم ولم تكن لها أية مفاعيل داخلية. وأطلق بالونات اختبار مباشرة من نوع هيئة الحوار الوطني، أو على نحو غير مباشر من نوع مؤتمر الحوار.

وسواء كانت الرسائل موجهة الى الخارج أو الى الداخل، فإنها لم تؤثر في أي شكل من الأشكال على واقع الحال. ما يعني ان صاحب القرار ما زال في مرحلة اعتبار ان كلاماً عاماً ومبهماً يكفي لحل ازمة بهذا التعقيد. وان إلقاء المسؤولية على الآخرين، مثل تغيير مسؤولين تنفيذيين او ان المعارضة لا تريد الحوار او التركيز على المؤامرة الخارجية، تبريرات ينبغي ان تقنع الآخرين بابقاء الحال على حاله. لا بل لا يتردد في استغراب عدم تصديقه في تبرير سلوكه الى حد الوصول الى موقع استعلائي ومتعجرف في التعامل مع أي اهتمام جدي بحل للأزمة. وهذا وهم آخر، اذ ان العجرفة المنطوية على تهديد لم تعد وسيلة إقناع ناجحة، كما نجحت في ظروف سابقة. لا بل أدت الى نتائج عكسية في زيادة العزلة واتساع التنديد بسياسة الحكم السوري.

هذه الأوهام، بين أخرى، تعمّق الازمة وتدفعها الى الاستمرار والتمدد، على نحو يصبح فيه صاحب القرار منقطعاً تماماً عن الواقع الراهن وظروفه وموجباته، على نحو يدفع البلاد في طريق يخسر فيه الجميع، بمن فيهم الحكم الذي تصبح أوهامه مصدر مقتله.

السابق
جعجع للحريري: إبقَ حيث أنت
التالي
الشرطة الإسرائيلية تسمح لمجموعات يهودية بدخول المسجد الأقصى