مرحلة جديدة لتركيا ودور شرق أوسطي جديد

تمكن رئيس الوزراء التركي رجب الطيب أردوغان من لي ذراع المؤسسة العسكرية, بعد صراع مديد معها امتد على مدى نيف وعشر سنوات. بانت بشائر هذا الانتصار بفوز حزب العدالة والتنمية بالجولة الأخيرة في الانتخابات البرلمانية, وانتهت منذ مدة قصيرة بالصراع مع المؤسسة العسكرية الذي استقال بنهايته كل طاقم القيادات العسكرية البرية والبحرية والجوية. الحكومة نفسها والنهج ذاته, لكن ليس بالضرورة السياسة الخارجية عينها, إذ لابد من الإشارة إلى مجمل التغيرات التي طرأت على هذه السياسة مواكبة للربيع العربي.

في الحقيقة كان لابد من تكيف ذكي لتركيا مع التغيرات الحاصلة في الجوار العربي, بهدف درء مخاطر انعكاسات سلبية لهذه الثورات على الداخل التركي. إن حكومة أردوغان وإن برهنت عن صلابة وتماسك على صعيد إدارة الأزمات الداخلية, إلا أنها تظل ضعيفة أمام هول الرياح العاتية التي بإمكانها مطاولتها من الخارج, تماما كما طاولت إسرائيل, البلد غير العربي. فالأخطار التي تخشاها تركيا اليوم قد لا يكون مصدرها بالضرورة الداخل التركي, ومن احتمال ردة فعل انتقامية للمؤسسة العسكرية مثلاً. إدارة أردوغان قرأت من دون شك في الخريطة السياسية الجديدة للعالم العربي والإسلامي., وماذا رأت? رأت فجوة في غياب العراق ومصر عن دورهما التقليدي الريادي في المرحلة القائمة, زائد الانكفاء النسبي لدور المملكة العربية السعودية, وربما انهيار النظام الوشيك في سورية, ويتبعه لبنان. فجوة وفراغ يمهدان لتنامي أطماع دولة شمولية توسعية مثل إيران, ربما لوثبة قضم جديدة من قبلها لملء هذا الفراغ الحاصل.

لذا قد لا نستغرب أن نرى تركيا اليوم وقد تقمصت دوراً جديداً مغايراً تماماً للذي كانت عليه خلال السنوات الماضية. وذلك انطلاقاً من نظرة استشرافية ثاقبة, لمستقبل الثورات في العالم العربي, وانطلاقاً من رغبة تفادي الوقوع في فراغ ما بعد الثورة, أسوة بما حصل في دول الجوار. والدور الجديد لتركيا يقتضي الخروج وبالسرعة القصوى من حلقة الأحلاف السابقة والتي لو بقيت فيها لكانت اضطرت لمسايرة أنظمة مزعزعة الأواصر وعلى حافة الانهيار. أيام الغزل مع محور الممانعة والممانعين الموصوفين مثل إيران وسورية والمالكي وحماس في غزة انتهت إلى غير رجعة بالنسبة لتركيا. والدليل اليوم جاءنا بخبر يقول إن تركيا أوقفت شحنة أسلحة قادمة من إيران ومتجهة عبرها وعبر سورية ل¯"حزب الله".

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن أمام هكذا خبر هو: لماذا لم تعمد تركيا لإيقاف هذا النوع من الشحنات في السابق? والجواب أن موقف التعتيم على مرور شحنات السلاح المتجهة إلى "حزب الله" كانت تمليه نظرية الوقوف بجانب حلف الممانعة. وهو الحلف الذي برهن عن قوته على الساحة العربية وكان لا بد لتركيا من مسايرته. فإيران نجحت في نهج الممانعة وتمكنت من لي ذراع المجتمع الدولي بخصوص ملفها النووي, ناهيك بنجاحها في التمدد الأخطبوطي عبر العالم الإسلامي كافة, وبانت وكأنها القائد الفعلي الجديد للعالم العربي خصوصا بعد سقوط العراق في أحضانها وباتت حكومة المالكي تأتمر بشكل مباشر بأوامر المرشد الأعلى وتنفذ إرادة الحرس الثوري الإيراني. وحيث اعتبرت حكومة أردوغان بأنه لا مناص من التنسيق والوقوف بجانب محور الممانعة القوي هذا, رأيناها في الفترة السابقة تُقيم الأحلاف مع إيران بوجود الرئيس البرازيلي السابق لولا دي سيلفا, وتظهر التعاطف مع قضية غزة, وتغازل سورية بواسطة شتى أنواع التقديمات الاقتصادية واللوجيستية. لكن هذه الأيام وهذه السياسات أصبحت كلها من الماضي, وباتت إيران تشكل بالنسبة لتركيا الشيطان الأكبر, وهي الآن في طور ترقب أطماعها, وتستعد لطمس كل تحركاتها التوسعية بالمهد.

وإذا كانت تركيا لا ترتاح لركون وهدوء الذئب الإيراني وتراقب سكونه المقلق, إلا أنها تراقب بالعين الأخرى التطورات والتغيرات الحاصلة بجوارها وعلى حدودها. فهي لا يمكنها أن تبقى بموقع المتفرج بعد الزعزعة التي أصابت سورية أهم مدماك في حلف الممانعة السابق. ولقد أدركت تركيا بأنها لا يمكنها أن تلازم الحياد أو تتخذ موقف النأي الأبله أسوة بحكومة لبنان. تركيا هي طبعاً دولة عظمى على الصعيد الشرق أوسطي وستراتيجيتها بمستوى أهمية دورها, ولا يمكن بالتالي مقارنتها مع دويلة لبنان أو "دويلات لبنان".

لقد دقت ساعة المبادرة التركية الحثيثة باتجاه سورية. وها هو أردوغان يهدد بالتدخل المباشر في حال استمر نهج العنف والقتل منفلتا من عقاله هناك. ما يهم أردوغان اليوم وقد تحول إلى شبه سلطان جديد, ما يهمه لم يعد الاستمرار في الهرولة والسعي من أجل الدخول في الاتحاد الأوروبي, بقدر ما باتت تشغله الرغبة في لعب دور المنظم والمخطط, ودور المرجع في كل الأقطار العربية, إن في تلك التي نجحت فيها الثورة ولم تتبلور أطرها النهائية بعد, وإن في تلك حيث ما زالت الثورة في بداياتها. هذا مع العلم أن طموح أردوغان اليوم يتماهى وطموح المجتمع الدولي المراهن على الدور التركي الجديد والذي يسعى للتحول إلى جسر عبور كما في أيام المؤسس,

جسر عبور للعالم الغربي باتجاه العالم العربي. أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي أم لا, لم يعد بالنسبة لتركيا اليوم الشغل الشاغل, أما وقد تحولت أوروبا ومن بعدها المجتمع الدولي إلى مراهن على الدور التركي وعلى أهميته الجيوستراتيجية على الصعيد الشرق أوسطى. فأوروبا هي اليوم بحاجة لتركيا أكثر من حاجة تركيا للانضمام إليها. إذ تفضل أوروبا مئة مرة, وسيطا فاعلا وإن كان ذا طابع إسلامي, ولكن يؤمن لها هذا الدور التواصلي مع العالم العربي الإسلامي, على حكومة يهيمن عليها الطابع العسكري التقليدي العلماني, لكن غير مرحب بها كثيراً في العالم العربي الإسلامي, وعاجزة عن تأمين هذا الدور المهم والمطلوب, دور العبور أو الجسر هذا.

السابق
تحليل سياسي.. انفضاح التلفيقات الإعلامية
التالي
الحياة: ميقاتي يدين سقوط ضحايا في سورية ودعوة الملك عبد الله لوقف اراقة الدماء حكيمة