شرق أوسط جديد.. نسخة تركية

 تقف المنطقة على مفترق طرق، ذلك أن الوضع في سورية سيحدد الاتجاه الذي ستسير فيه، ووفقا للنتائج التي سيصل اليها الوضع هناك، ستبدأ عملية تشكل جديدة قد تكون معالمها أصبحت واضحة، في وقت يقال فيه إن الحسم في سورية قد بدأ بالفعل ومن الممكن أن تظهر نتائجه قريبا، إن لم نقل خلال ايام فربما خلال اسبوعين على الأكثر، لأن المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من الضغط في أكثر من بقعة فيها، وهي إن بدت منفصلة عن بعضها، إلا أنها في النهاية ليست سوى حلقات في سسلسلة واحدة مترابطة ستتأثر جميعها بالتغييرات التي تحصل مهما كان مستواها.
ماذا يعني رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان عندما يقول إن بلاده نفذ صبرها حيال الوضع في سورية؟ وهو كان قد رفع من سقف تهديداته غير مرة من دون أن يتمكن من التدخل الذي كان قد جهز نفسه له الى حدود أنه كان يحلم باجتياح الجيش التركي لسورية، تحت عنوان حماية المدنيين وتجنبا لارتدادات الأوضاع هناك على الأوضاع التركية الداخلية، وكان قد حدد ساعة الصفر له يوم معركة جسر الشغور التي خاضتها القوى العسكرية والأمنية السورية في مواجهة عصابات مسلحة وقفت تركيا في ظهرها وفتحت خيمها لاستقبال المهجرين. لكن سورية ارادت من خلال تلك المعركة أن ترسل رسالة الى تركيا مفادها أنها جاهزة للتصدي لأية محاولة عسكرية مهما كانت ذريعتها ففهمت أنقرة ذلك وانكفأت.
ما يريده أردوغان هو من باب تنفيذ رؤيته لما يمكن أن تكون عليه تركيا إذا ما سقطت سورية بين يديه، في استعادة لحلم التتريك الذي مضت عليه عقود طويلة، وليس من السهل العودة الى تطبيقه، ولو اجتمعت عليه بعض الدول ممن وعدهم أردوغان بتطويع العالم الإسلامي لقيادته، وفتح صفحة جديدة لهم معه، بعد أن يحكم سيطرته عليه من خلال الاحتلال بكل وجوهه سياسيا، اقتصاديا وثقافيا وصولا الى حد التطبيع، وهذا أسهل بحسب التفكير التركي من التطبيع مع "إسرائيل" بعد سقوط تجربة ما بعد اتفاقيات "كامب دايفيد" التي تعيش آخر فترات حياتها.
لقد اتفق اردوغان مع الغرب على أن يقود العالم الإسلامي مرة أخرى، مقابل أن يمنح الدعم اللازم من مال وسلطة، فهو بذلك يوفر على الغرب الدخول في متاهات ذلك العالم الذي بحسب رأيه (اي الغرب) كلفه الكثير حتى الآن، من دون أن يستطيع تطويعه، لا بل على العكس فقد تورط هذا الغرب في أزمات كثيرة نتيجة تدخله منذ أفغانستان وباكستان الى إيران الى العراق الى لبنان، وما دفعه من أثمان غالية لا يزال حتى الآن يحاول الثأر لها.
إذا، المشروع الجديد هو "شرق أوسط جديد" بعنوان تركي لا أميركي هذه المرة، و"إسرائيل" في هذه الحالة تقف في الوسط بين أنقرة وواشنطن لترى من يقدم لها الأفضل، علما أنها تراهن كثيرا على قدرة تركيا الحليف القديم – الجديد من أجل إحراز تقدم يعفيها من خوض تجارب أخرى، إن على مستوى لبنان تحديدا بعد تجربتي الـ2000 والـ2006، أو على مستوى الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي لم يستطع العالم إيقاف برنامجها النووي كما العقائدي – القومي الذي يستفز "إسرائيل" اكثر من مشروع قنبلة نووية تقول إيران بحرمة امتلاكها.
صيغة جديدة لـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، أو إذا صح القول نسخة منقحة فرضتها التطورات التي حدثت وتحدث في المنطقة العربية منذ أكثر من سبعة أشهر، وهو مشروع مصادق عليه من قبل الولايات المتحدة وبعض الأوروبيين، وإن بدت الخطابات السياسية والمواقف متقاربة حيال ما يجري في المنطقة، لكن أوروبا في واقع الحال منقسمة في رؤيتها حول ما يحصل، وهي تخشى ان ينقلب السحر على الساحر في لحظة ما، فلا تستطيع بعدها تسوية الأوضاع بما يتلاءم مع مصالحها في هذه المنطقة الحيوية لكل اقتصادات العالم، عدا التأثيرات الثقافية والإجتماعية التي من الممكن أن تطاولها.
لقد هيأ اردوغان جميع فئات مجتمعه منذ اندلاع الأحداث في سورية ليكون جاهزا لتقبل فكرة التدخل العسكري هناك، بما في ذلك الصحافة التي عملت على تصوير أن الأزمة في المنطقة هي أزمة مع فئة "ضالة" من المسلمين، هم الشيعة، في محاولة لإخراج العدد الأكبر من الإتنيات أو الفئات المختلفة من الصراع بخاصة أولئك الذين يمثلون جزءاً من المجتمع التركي وهم العلويون، كما عملت الدوائر السياسية بالتعاون مع الإعلام التركي على تظهير الاختلاف بما يتوافق مع جعل الشيعة ومن يتبعهم من العلويين كـ"خوارج" يجب القضاء عليهم تمهيدا لتنفيذ خطة "جهنمية" لإعادة السيطرة على المنطقة، إلا أن الرياح لم تجر بما اشتهت سفن أردوغان، فقد برزت اليه المؤسسة العسكرية التركية التي رفضت الانصياع لفكرة تدخل عسكري غير محسوب في رأيها، ولا تجد فيه مصلحة لتركيا، لا على المستوى العسكري، ولا على المستوى السياسي، ناهيك عن النتائج غير المضمونة.
لم توافق المؤسسة العسكرية التركية على هذه الخطة بالرغم من أنها جزء من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لأنها ترفض أن تنفذ من دون أن تراعي مصالح المنطقة التي هي جزء منها، علما أن هذه المؤسسة التي تربطها علاقات وطيدة مع المؤسسة العسكرية "الإسرائيلية"، بقيت محافظة على الخط الفاصل في قضايا الصراع الاستراتيجي الذي ما زال حيا في نفوس مختلف فئات المجتمع التركي، حيث لم يستطع النظام العلماني الذي يحكم تركيا أن يزيلها أو يقضي عليها وفي مقدمتها فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
الخلاف الذي نشب بين أردوغان والجيش وإن اتخذ طابعا وظيفيا، إلا أنه في الأساس قائم على خلاف سياسي عميق كان آخر فصوله قرار رئيس الوزراء التدخل العسكري في سورية.
يبدو أن الحذر بات واجبا من حراك تركي يحاول التمدد باتجاه جبهات ساخنة، في حين أن هذا التمدد يخدم بصورة مباشرة مشاريع عدوة للمنطقة واهلها على مدى التاريخ الحديث، وهو يراهن على تحريك فتن في استعادة تاريخ قديم ليس من مصلحة احد نبشه من جديد. 

السابق
تأملات في سوء الإدارة
التالي
جنبلاط في تركيا: كلمة السر