جنبلاط في تركيا: كلمة السر

 الزعيم الدرزي وليد جنبلاط لعب ولا يزال الدور المحوري في رسم معالم السياسة الداخلية اللبنانية. طريقة تعامله مع المسائل مكنته من الصمود في وجه الكثير من الأزمات والمحن التي عصفت بأسرته وحزبه وتحالفاته السياسية. جنبلاط كان السباق بسبب براغماتيته المعروفة وحسه السياسي المميز في قراءة وتبني الصعود التركي الإقليمي والانفتاح على حكومة رجب طيب أردوغان والتنسيق مع أنقرة في أكثر من ملف ثنائي فيه مصلحة الطرفين.
تقارب مصالح الجانبين وتداخلها والخدمات المتبادلة الممكن تقديمها في السر والعلن كثيرة، وكان آخرها تسهيل أنقرة لجنبلاط خلال زيارة الصيف المنصرم إلى تركيا اجتماعه بالقيادات الدرزية في الأراضي العربية المحتلة وقبول الأخير بالنصائح التركية وتبنيها في التعامل مع الأزمة الحكومية في لبنان وتغيير موقفه منها الذي لعبت أنقرة دورا شكرها الزعيم الدرزي عليه وهو في طريق عودته من زيارة المصالحة مع دمشق التي لا نعرف ما إذا كان لأردوغان وحكومته أي دور فيها.
لا، بل إن جنبلاط الذي أشاد دائما بالتجربة الديمقراطية التي تعيشها تركيا وتوقف أكثر من مرة عند أهمية ودور تركيا في الوقوف إلى جانب لبنان في محنه الداخلية والإقليمية، سارع مؤخرا إلى رد التحية التركية بأحسن منها، بعدما خاطب في أواخر أبريل (نيسان) المنصرم الدياسبورا الأرمنية وهو المعروف بعلاقاته المميزة مع الجالية الأرمنية في لبنان وبارمينيا، قائلا إن شعبا شجاعا وقيادة جسورة قادران على طي صفحة المأساة وفتح أبواب الحوار مع تركيا الساعية إلى تسوية تاريخية.
تسليط الأضواء على زيارة جنبلاط الأخيرة إلى تركيا ضروري هذه المرة، لأنها تختلف عن زيارات تنسيق المواقف السابقة مع قيادات «العدالة والتنمية» في ملفات لبنانية وإقليمية وتبادل الرسائل والخدمات في المسألة القبرصية والموضوع الأرمني والمشاركة التركية في القوات الدولية الموجودة في جنوب لبنان وعلاقات حكومة «العدالة» بالكثير من القوى والأحزاب السياسية اللبنانية.
فما يجمع أنقرة والمختارة ربما هو قولهما بصراحة ودون تردد ما يريان ويشعران به، لكن ما يوحدهما هذه المرة هو تشابه صعود وهبوط علاقاتهما بدمشق مركز الثقل في سياساتهما ومصالحهما المشتركة معها وحاجتهما إلى تنسيق المواقف حيال ما يجري في سوريا والإعداد لمرحلة ما بعد الأزمة هناك. أردوغان وجنبلاط يعرفان أن مواصلة أسلوب إطلاق التحذيرات للقيادة السورية بسبب طريقة تعاملها مع الأزمة تتقدم بنجاح، خصوصا بعد انضمام موسكو إليه من خلال الحديث عن «المصير الحزين»، وهي التي تدرك أن جنبلاط هو أحد أهم حلفائها في لبنان. بصورة أخرى انتقادات جنبلاط لطريقة وأسلوب القيادة السورية في التعامل مع الأزمة تلتقي مع أسلوب القيادة التركية التي تواصل التصعيد والتشدد التدريجي في مواقفها بانتظار التطورات الداخلية في سوريا. أنقرة والمختارة يعرفان قبل كل شيء أن إغضاب دمشق يعني إغضاب حلفائها في لبنان والمنطقة، وأن عليهما الخروج من ورطتهما هذه بأقل الخسائر والأضرار، فصداقاتهما وعداواتهما بالكثير من القوى المحلية والإقليمية ستتأثر بشكل أو بآخر بمسار الملف السوري.
مهمة جنبلاط تحديدا ليست بمثل هذه البساطة، خصوصا بعد قرار المشاركة في ائتلاف حكومة الرئيس ميقاتي، فهو طرف في حكومة تجمعه جنبا إلى جنب مع فريق «8 آذار» المقرب من دمشق، وهو في الوقت نفسه مجبر على قبول قرار رفض تبني البيان الرئاسي الأخير لمجلس الأمن الدولي حول الأزمة السورية. الزعيم الدرزي غامر أولا من خلال تغيير موقعه التحالفي الداخلي الذي ساهم في ولادة الحكومة اللبنانية الجديدة بتعريض علاقاته مع سعد الحريري للتراجع، حيث قد تدخل أنقرة على الخط لإعادتها إلى سابق عهدها، لكنه غامر بالذهاب إلى دمشق وهو يعرف تماما أنه يعرض علاقاته ومصالحه مع الكثير من العواصم العربية والغربية للتدهور وللتراجع، وهنا قد تكون الخدمات التي ستقدمها حكومة أردوغان محدودة وضيقة.
أردوغان وجنبلاط وهما يناقشان ملف الأزمة السورية ويبحثان عن كلمة السر في مسارها ومستقبلها سيتذكران حتما قصة الفقمة التي تم انتشالها من المحيط وهي على حافة الموت بسبب الأضرار التي خلفتها ناقلة نفط غرقت هناك، فتم صرف آلاف الدولارات على إنعاشها ومعالجتها، وما إن أعيدت إليها حريتها وحياتها الطبيعية وسط ابتهاج وفرحة الحضور حتى اقترب منها أحد الحيتان الذي صادف مروره من
 

السابق
شرق أوسط جديد.. نسخة تركية
التالي
الربيع العربي ثورة لإطاحة “الأنظمة الثورية”