بحثاً عن سياسة عقابية للبنان

 لا تُثار أوضاع السجون في لبنان، عادةً، إلا عند وقوع حوادث أمنيّة، بينما يُفترض طرحُ أزمة السجون انطلاقاً من البحث في فعّاليّة الإجراءات العقابيّة لنظام العدالة وأخلاقيّتها. لكنْ، بسبب عجز الدولة عن تطبيق قانون تنظيم السجون الذي يعود إلى 1949 (المرسوم 14310)، يطغى الحديثُ عن تجاوزات القانون في السجون، على موضوع تحديد العقاب المناسب للذين ثبت خروجُهم على القانون. ويساهم وجودُ عدد كبير من الموقوفين قبل المحاكمة ــ وهو يساوي أكثر من نصف مجموع المحتجزين في لبنان ــ في سحب النقاش حول العقاب وأنواعه من التداول، على اعتبار أنّ الأولويّة تعود إلى تأمين الحدّ الأدنى من الحاجات المعيشيّة الأساسيّة لسجناء يُحشَرون في سجونٍ ضيقة لا تتوافر فيها شروطُ الحفاظ على الكرامة الإنسانيّة.
يعاني نظامُ العدالة في لبنان مشاكلَ كثيرةً ومتنوّعة، فمؤسّسات الضابطة العدليّة تشكو نقصاً في العديد والتدريب والتجهيز. ومعظم الأطبّاء الشرعيين ليسوا من ذوي الاختصاص، ولم يطوّروا كفاءاتهم لتتناسبَ مع التطوّر السريع والمذهل الذي أُحرز دوليّاً في مجال الطبّ الشرعي والمباحث العلمية. أما النيابات العامّة والمحاكم، فلا تتوافر فيها حاجاتُ قضاتها الأساسيّة؛ فالنقص واضحٌ في المساعدين القضائيين، وفي مكننة الملفّات القضائية؛ كما أنّ قاعات المحاكم ومكاتب القضاة ومستودعات الأدلّة الجنائيّة لا تتناسب مع الحدّ الأدنى من المعايير القضائيّة، الأمرُ الذي يبطئ الإجراءات ويؤخّر صدورَ الأحكام ويفتح المجال واسعاً أمام الاشتباه في حصول تلاعبٍ وفساد. هذا، ويأتي احتجازُ حريّة المتّهمين أو المحكومين أو المشتبه فيهم، بعد مرورهم بالضابطة العدليّة والدوائر القضائيّة، وبالتالي يحدّد النظامُ اللبنانيّ الإجراءات السجنيّة في المرحلة الثالثة والأخيرة من مسار تطبيق العدالة.
يكمن الخلل في فراغ الحلقة التي يدور فيها ذلك المسارُ من خلال النسبة المرتفعة من الأشخاص الذين ينتقلون من المرحلة الثالثة، أيْ تنفيذ العقوبة، إلى المرحلة الأولى، أي الملاحقة الجنائيّة، ومنها إلى مرحلتي المقاضاة والعقوبة المكرّرة، بسبب فشل إصلاح السلوك الجنائيّ وانعدام العلاج، وصعوبات إعادة الاندماج والتأهيل، وبسبب التصنيف الاجتماعيّ السلبيّ للسجناء السابقين.
ويكمن الخلل كذلك في عدم تسلسل الإجراءات بطريقة سليمة، فكثيرة هي الحالات التي يصدر فيها الحكمُ خلال الأيّام الأخيرة من انقضاء مدة عقوبة السجن التي حدّدتها المحكمة. وفي تلك الحالات يكون المتهم قد عوقب على ارتكاب الجريمة، قبل أن يَثبت أمام المحكمة أنّه ارتكبها فعلاً. وتُعدّ تلك «الخربطة» في التسلسل تجاوزاً فاضحاً لأبسط أسس نظام العدالة، إذ تبيح معاقبة أشخاص موقوفين، قبل صدور أحكام في حقهم. أما احتجازُ حريّتهم قبل المحاكمة وأثناءها، فينبغي اعتبارُه محض تدبير استثنائيّ واحتياطيّ في حقهم؛ ولا يجوز ـ التزاماً بمبدأ «قرينة البراءة» ـ أن تصنّف تلك التدابير كتدابير عقابيّة، ولو تضمّنت السياسةُ العقابيّة برامجَ علاجيّةً
وإصلاحيّة.
من هنا، يُفترض التشدّدُ في فصل الموقوفين عن المحكومين فصلاً كاملاً. والحال أنّ ذلك الفصل الغائب اليوم عن واقع السجون في لبنان مرتبطٌ ارتباطاً جوهريّاً بمفهوم نظام العدالة وبالمشاكل التي يعانيها؛ ذلك أنّ وضع موقوفٍ بريءٍ إلى حين ثبات ارتكابه جريمةً (أو جرائم) مع محكومٍ ثَبَتَ ارتكابُه جريمةً (أو جرائم) في الغرفة نفسها، ومعاملتَهما بالطريقة نفسها، يسهم في تكريس تراجع ثقافة العدالة في لبنان.
إنّ المجتمع الذي يعتبر الشخصَ المتَّهم مداناً:
أ ـــ يمنح الضابطة العدليّة والنيابات العامّة المشرفة عليها صلاحيّة الإدانة، في حين لا تتمتّع تلك السلطاتُ بالاستقلاليّة اللازمة لأداء دور الحَكَم بين الناس. ومن ثمّ، فإنّ الإجراءات الرسميّة التي تعجز عن التمييز الصارم بين الموقوفين والمحكومين، تسهم في تقوية نظام البوليس على حساب نظام العدالة، وذلك عبر منح الشرطة امتيازَ الإدانة قبل المحاكمة.
ب ـــ يُضْعف الاهتمامَ الجدّيّ بمرحلة المحاكمة وما ستؤول إليه. ذلك لأنّ حسم الإدانة قبل انطلاق المحاكمة يجعلها صُوَريّةً، ويضع ضغوطاً غيرَ مشروعة على قضاة الحكم، ويؤدّي إلى تراجع التدقيق بصحّة الإجراءات القضائيّة.
الجدير ذكرُه أنّ الخلط بين الموقوفين والمحكومين يلغي حقّ الموقوفين في الدفاع المشروع عبر مواجهة أدلّة القرارات الاتهاميّة أمام المحكمة بأدلّةٍ تدحضها. كما أنّ ذلك الخلط يلغي حقّ الطعن في الحكم الصادر.
لا تقتصر مشاكلُ السجون في لبنان على تمييز الموقوفين من المحكومين، ولا على الاكتظاظ والأوضاع المعيشيّة الصعبة التي تعانيها تلك السجونُ، بل ولا على النقص الحادّ في البرامج الإصلاحيّة والعلاجيّة والتربويّة. المشكلة الأساس تكمن في غياب السياسة العقابيّة في النظام اللبنانيّ.
أولاً، إنّ النظام القضائيّ يفرض عقوبة حجز الحريّة على مرتكبي سلسلة طويلة ومتنوّعة من الجرائم، من دون قياس تأثير تلك العقوبة في سلوك من يخضعون لها، ودراسة جميع جوانب ذلك التأثير. وفي هذا الشأن، بيّنتْ دراسة وضعتُها في 2003 (سجنُ رومية إنْ حكى) أنّ أوضاعَ السجون، واختلاطَ السجناء المحكومين والموقوفين بجرائم متفاوتة الخطورة، وغيابَ النشاطات والعلاج والمراقبة الجدّيّة والممنهجة لسلوك السجناء، تؤدي إلى اكتساب بعض السجناء حيلاً جنائيّة، أو إلى تطوير بعض الأساليب الجرْمية وتأليف شبكات للتعاون في ما بينهم، في سبيل الإفلات من الملاحقة.
ثانياً، أُوكلتْ إدارةُ السجون والتعامل مع السجناء إلى المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخليّ. وهي تُعدّ جزءاً من الضابطة العدليّة، وبالتالي فإنّ وظيفتها الأساسيّة يُفترض أن تقتصر على المرحلة الأولى من المراحل الثلاث لمسار العدالة الصحيح، أيْ مرحلة التحقيق والملاحقة بإشراف القضاء، لا أن تتعدّاها إلى أداء الدور الرئيس في مرحلة تنفيذ العقوبات. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ منح الشرطيّ صلاحيّةَ الإشراف على معاقبة المحكوم، يسهم كذلك في تقوية نظام البوليس على حساب نظام العدالة.
ثالثاً، تُفرض عقوبةُ السجن على موقوفٍ أو محكومٍ بارتكاب جريمة من دون الأخذ بالاعتبارات الاجتماعيّة. فمثلاً، بعضُ العائلات تعتمد على الشخص، الذي تسجنه الدولة، مصدراً أساساً لدخلها. ويؤدّي ذلك، في غياب الخدمات الاجتماعيّة، إلى نتائج سلبيّة قد تدفع أفرادَ العائلة إلى الجريمة بقصد الثأر، أو لتأمين لقمة العيش.
رابعاً، إنّ غياب السياسة العقابيّة للدولة يتيح التمييزَ بين المحكومين بالسجن. فبسبب عدم تحديد القانون منهجيّةً لتصنيف السجناء وتوزيع المسؤوليّات والوظائف، تتدخّل «الواسطة» لمنح بعض السجناء امتيازاتٍ خاصةً، تتيح لهم التحكّمَ بالسجناء الآخرين. فيصبح هؤلاء، من جهة، تحت رحمة إدارة السجون غير المؤهَّلة مهنيّاً للقيام بوظيفتها، ومن جهة ثانية تحت رحمة «الشاويش» الذي تعيّنه إدارةُ السجن بسبب عمله لمصلحتها، أو بسبب الواسطة التي طالبتْ بمنحه امتيازات.
خامساً، إنّ تعامل الدولة مع الأشخاص الذين يَثْبت ارتكابُهم جرماً يندرج في خانة ردّ الفعل على وقوع الجرم، وليس انطلاقاً من واجب الدولة معالجةَ المشاكل الاجتماعيّة. ولا عجب في ذلك، إذ إنّ الخلاصة العلميّة التي تدلّ على أنّ «الجريمة وليدة المجتمع» لا تبدو مقْنعةً للعدد الأكبر من حكّام لبنان الفعليين. فهؤلاء، الرأسماليّو التوجّه والتفكير، يركّزون على أنّ الجريمة هي نتاجُ خيار وسلوك فرديين، لا علاقة جوهريّة للمجتمع بإنتاجهما وتطويرهما أو بمنعهما وخفض مستوى تكرارهما. أما التوجه الذي يطغى على ردّ فعل الدولة فيرتكز على العقوبات الرادعة. ففي لبنان شبهُ حسمٍ بأنّ الترهيب من عواقب ارتكاب الجريمة يؤدّي حتماً إلى انخفاض مستوياتها، وبالتالي يُفترض أن تكون الشدّة هي السمة الأساس في تنفيذ
العقوبات.
في رأيي أنّ على السياسة العقابيّة في لبنان أن تتضمّن ما يأتي:
1 ـــ الإعلان عن النهج العقابيّ العامّ الذي تحدّده الدولة من خلال قانون تقترحه الحكومة، استناداً إلى نتائج أبحاث شاملة ودراسات معمّقة في علم العقاب. ويناقش مضمونُ المشروع في اللجان النيابيّة، قبل إحالته على الهيئة العامّة للمجلس للتصويت عليه.
2 ـــ تحديث عقوبة حجز الحرية، وذلك بالإجراءات الآتية: تأهيل مباني السجون بحسب المعايير القانونيّة والحقوقيّة، والتخلص من الاكتظاظ؛ تحسين الخدمات الطبيّة والطعام وشروط النظافة، مكننة جميع ملفّات السجناء، والتأكد من أنّها كاملة، وتحديثها باستمرار، وربط جميع السجون إلكترونيّاً بإدارتها المركزيّة؛ إطلاق برنامج جمع النُقَط، من خلال التعليم والتدريب والعمل والرياضة والفنّ للجميع، وذلك بهدف قياس حسن سلوك السجناء، الأمر الذي قد يتيح لهم طلب خفض مدة العقوبة بموجب القانون 463/2002؛ تطوير البرامج العلاجيّة النفسيّة والعلاج من الإدمان والاكتئاب والمشاكل العائليّة والتوترات الجنسيّة، وتوفيرها لجميع السجناء والأحداث المحكومين والموقوفين إذا أرادوا؛ تسهيل تواصل السجناء مع ذويهم وأحبّائهم، ومع مكان عملهم السابق أو مدارسهم وجامعاتهم، ومساعدتهم على متابعة أيّ نشاط منتج من داخل السجن بفضل التواصل الإلكتروني والزيارات؛ إطلاق برنامج الحريّة المشروطة، أي السماح لبعض السجناء الحسني السلوك بالخروج من السجن لمددٍ محدّدةٍ، بهدف العمل أو لقاء الأحبّة، على أن يعودوا إليه لحين انتهاء مدّة عقوبتهم؛ المراقبة بعد إخلاء السبيل (parole)، بهدف التذكير بعدم العودة إلى السلوك الجرميّ والمساعدة على إعادة الاندماج الاجتماعيّ والعمل الإنتاجيّ.
3 ـــ تشريع العقوبات البديلة. تتطلّب الحريّة المراقبة (probation) متابعة يوميّة لجميع جوانب حياة المحكوم، والعمل على مساعدته لإصلاح سلوكه الجرميّ، وذلك من خلال: العلاج النفسيّ، الفرديّ والجماعيّ، والتعليم والتدريب المهنيّ، والبرامج العائليّة؛ برامج المشاركة في تقديم الخدمات الاجتماعيّة من خلال العمل في البلديّات وفي المؤسسات العامة، أو العمل ضمن مشاريع محدّدة في البناء أو الصيانة أو الزراعة أو النقل أو التنظيفات؛ إقامة مخيمات انضباط للأحداث الذين يتبيّن للقاضي (بعد اطّلاعه على التقارير الاجتماعيّة والنفسيّة) أنّهم بحاجة الى توجيهات سلوكيّة واضحة وصارمة. ولا يُفترض أن تطول مدّة مخيّمات الانضباط أكثر من أيام قليلة، يعود بعدها الحدثُ إلى معهد الإصلاح لإتمام عقوبته.
4 ـــ تحديث القانون ووضع دليل توجيهي مفصّل لكيفية تطبيقها (يمكن أن يصدر كمرسوم تطبيقي). فقانون تنظيم السجون صدر في 1949، وتنقصه أجزاء أساسيّة تتعلّق بمنهجيّة تصنيف السجناء وتوزيعهم، وبدليل خفض العقوبة والحصول على علاج والانضمام إلى البرامج التربويّة والمهنيّة والفنيّة والرياضيّة.
5 ـــ إنشاء مديريّة عامّة للمؤسّسات العقابيّة تخضع لسلطة وزارة العدل، ويديرها قاضٍ متخصّص، تطلق عليه صفة «قاضي تنفيذ العقوبات».
إنّ البحث العلميّ هو السبيل المناسب لتحديد فعّاليّة الإجراءات العقابيّة التي تتخذها الدولة بهدف إصلاح السلوك الجرميّ وإعادة المحكومين الى المجتمع أفراداً منتِجين وصالحين للاندماج مع الآخرين. لكنْ، في لبنان، يبدو أنّ مبادرات الإصلاح تعتمد على خطط مرسومة لدول ومجتمعات أخرى، أو على افتراضات حول واقع الجريمة لم تخضعْ للتدقيق الجدّيّ. لذا، حبّذا لو تقرّر الحكومة الجديدة الاهتمامَ الجدّيّ بهذا الشأن، فتطلب من كليّات الحقوق والعلوم الاجتماعيّة والنفسيّة وضعَ دراسات أكاديميّة تتبع منهجيّة علميّة صحيحة تجيب عن السؤال الآتي:
ما هي الإجراءات العقابيّة التي تؤدّي الى خفض مستوى الجريمة في لبنان؟
وبناءً على تقاطع نتائج الدراسات، يقوم وزيرُ العدل بصياغة نصّ القانون الذي يحدّد السياسة العقابيّة للدولة اللبنانيّة، ويعرضه على مجلس الوزراء لمناقشته، قبل إحالته على مجلس النواب لمزيد من النقاش. 

السابق
الانتفاضات وإشراك العالم الخارجيّ
التالي
أوسكار نفطية للنواب !