قلتَ «مشترع»؟ نوّاب للحكي والفرفشة

 لا يشعر نواب الأمة بأي ضغط، حتى في الجلسات التشريعية يهربون إلى الخطابات السياسية، يضيّعون الوقت بها بدل مناقشة القوانين التي تهم الشعب والتي هي أساس وجودهم، باعتبار أن النائب مشترع أولاً. تشريع؟ هناك بين النواب من لا يطيق هذه الكلمة
ليس بين الملاعب السياسية واحد ينافس القاعة العامة للمجلس النيابي على صعيدي المرح والتسلية، مهما اشتد الخصام السياسي. موكب وزير الداخلية، هبوطه من السيارة، رده التحية للعسكريين، اختراعه جماهير يحيّيها يميناً ويساراً (…) كل شيء تقريباً يوحي أنه أكثر بكثير من وزير داخلية، رئيس جمهورية سابق ربما أو رئيس حكومة روسيا الحالي. ثم ينسى نفسه فيصعد درج المجلس قافزاً كل ثلاث درجات بخطوة. يحاول نديم الجميّل مجاراته مع «الرايبن» البشيري فيكاد يقع وسرعان ما تنقطع أنفاسه. ترى النواب مثقلين بظروف ينوء بها بعضهم لأنها أكبر منه: 67 مشروع قانون يفترض بالنواب مناقشتها ومحاولة إقرارها خلال يومين. يرمي أحدهم الظرف على الطاولة. مفاجأة: هذا حكمت ديب. وهذا محمد الحجار وهنا عماد الحوت. أهم القوانين في جدول الأعمال مقدمة باسم رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، وأبرزها: مساواة المحرَّرين من السجون السورية مالياً بالمحررين من السجون الإسرائيلية ومعالجة المشاكل القانونية لبعض الهاربين إلى إسرائيل.
في البداية صبحية سريعة: ديب وعلي عمار وإدغار معلوف. يستأذن معلوف عمار للتصويت ضده هذه المرة، في قانون التدخين. فيجيبه الحاج عمار: سأصوت ضد نفسي، معكم. ويبدي خشيته على زارعي الدخان الذين ستتضرر مصالحهم في حال توقفه عن التدخين ويضحك.
في القاعة العامة: ينزوي غسان مخيبر وجورج عدوان، اليوم لم يرتدِ مخيبر البذلة والحذاء الأبيضين اللذين ارتداهما أول من أمس، أما عدوان فيحمل حقيبة جلد فيروزية اللون. أنيق، عدوان. يجالس إبراهيم كنعان حسن فضل الله في الصفوف الأمامية، يقف آلان عون متفرجاً عليهما. منفردين يزعجان فكيف بهما مجتمعين. يحرص روبير فاضل على أن يسلم على فؤاد السنيورة. يدعو قاسم هاشم علي بزي ليجلس قربه. لا يكتفي خالد ضاهر بتقبيل سامي الجميّل، بل يغمره والدنيا رمضان. بين كاظم الخير وسامي الجميّل يبدو «الحاج خالد» مسناً. وراءه يجلس عاصم قانصوه. بينهما رياض رحال ونضال طعمة، حتى هنا أرثوذكسيّا عكار لا يفارق أحدهما الآخر. بعد قليل سيدخل هادي حبيش (كعادة الموارنة) بينهما. وحتى هنا، يجلس يوسف خليل وحيداً. يختلي محمد رعد بنواف الموسوي في إحدى الزوايا: من يوجه الآخر، رئيس الكتلة أم ثعلبها؟ الآن فقط يقرأ شانت جنجنيان جدول الأعمال الذي وزع يوم السبت الماضي.
يقرع الجرس، يهتف أحدهم. يتقدم الرئيس نجيب ميقاتي الرئيس نبيه بري في الدخول. نائب واحد قدم عذراً للتغيب، هو أسعد حردان. يخطئ الموظف القراءة فيرحب برئيس الحكومة محمد نجيب قباني. يشهق الرئيس نبيه بري، فيما يقفز النائب محمد قباني عن كرسيه ملوحاً؛ يا فرحته بالنبأ! يجلسه بري بسرعة مردداً: «يا محمد… رمضان كريم». تضحك القاعة العامة. تجلس بهية الحريري إلى جانب عمار حوري وفؤاد السنيورة. يمكن تخيل اعتزاز عضو المجلس البلدي البيروتي سابقاً بنفسه: ها هو في صدر المجلس، أخت الشهيد عن يمينه ووارثه السياسي عن يساره. يسمع أصواتاً في رأسه تنادي: «لبيك حوري (بالبيروتي) لبيك».
لا تكاد الجلسة تنطلق حتى يطلب النائب إبراهيم كنعان الكلام بالنظام، محاولاً إحراج المعارضة، عبر طلبه إبقاء السياسة بعيدة عن هذه الجلسة التشريعية التي يترقبها جميع اللبنانيين من دون استثناء. يجلس كنعان فيقف قباني، بالنظام أيضاً. يقاطعه عدوان حين يذكر القديس شربل، طالباً إخراج القديسين من التداول السياسي. يدخل فتى الكتائب سامر سعادة متأخراً، يخص وزير المردة فايز غصن بسلام حار. يطلب مروان حمادة من الحكومة استدعاء السفير السوري في لبنان لإبلاغه «استياء الشعب اللبناني من التعرض للمحتجين قبالة السفارة السورية»، و«يهنئ» حمادة الوزير جبران باسيل على الزيادات الأسبوعية في سعر صفيحة البنزين. باسيل ليس هنا. تدخل ستريدا جعجع. يتفقد النواب الكراسي التي بجانبهم: يا حظه ميشال حلو، زياد أسود إلى يمينه. ويا حظه نبيل نقولا، سيمون أبي رميا إلى يمينه. يمكن ابتسامة جورج عدوان أن تتّسع أكثر مما تتخيلون: تسحب ستريدا الكرسيّ الذي بجانبه، ترجعه قليلاً لتريح ساقاً على ساق. تلتفت إلى الخلف مستكشفة جيرانها فيرفع جان أوغاسبيان يده مرحباً، أما بدر ونوس فيفتح فمه ويتركه مفتوحاً. ترتاح أعصاب ستريدا وتتشنج أعصاب آخرين. بطرس حرب وباسيل: البترون هنا. يسأل حرب الحكومة كيف يلتقي وزير (وكان يود تكرار القول إنه وزير خسر الانتخابات النيابية في دائرته) رئيس دولة شقيقة، ويسأل إذا كانت الحكومة قد علمت بتلك الزيارة قبل حصولها واطلعت على نتائجها. المشرّعة جيلبرت زوين غائبة، نايلة تويني أيضاً. كرسي نعمة الله أبي نصر تبرم. يحيّي سامي الجميّل «الرفيق» عاصم قانصوه، فيرسل له أبو جاسم قبلة: يبدو أن غراماً يقوم بين النائبين على غرار غرام الرئيس أمين الجميّل والنظام السوري، الذي سبق لقانصوه أن هدد بكشف تفاصيله. تستمر المداخلات السياسية مؤخرة العمل التشريعي: يشير عدوان إلى تفكك الدولة التدريجي، سائلاً عما حصل مع الأستونيين وفي لاسا والرويس. ينفجر نوّاب الوفاء للمقاومة والتنمية والتحرير ضاحكين لنكتة بدا أن غازي زعيتر أطلقها. بالنظام، مروان فارس يتكلم أيضاً. أوغاسبيان ضيع الحكومة في الرويس. قاطعه بري: «الحقيقة خلص وقتك». محمد الحجار يشتمّ رائحة صفقة في لمبات التوفير التي وزعتها وزارة الطاقة. تحمل السيدة جعجع ورقة وتتحرك عن كرسيها باتجاه الوزير علي حسن خليل، تنهي المهمة وتعود إلى كرسيها بضع دقائق لتحمل ورقة أخرى وتتجه صوب وزير الداخلية. خالد ضاهر يحادث خالد زهرمان. أمام سامي الجميّل علبة بونبون وفي يده مسبحة. لا بدّ من المسبحة حين يكون قاسم هاشم المتكلم. لكن نائب البعث يفاجئ الجميع بانتقاده الشديد للمسؤولين بشأن انقطاع الكهرباء والاتصالات الخلوية في المناطق الحدودية.
لكن il n’est pas avec nous؟ يسأل الوزير نقولا الصحناوي جاره سليم كرم. تمر ساعتان ومروان حمادة يدردش مع زميله السابق في اللقاء الديموقراطي أكرم شهيّب، ينضم إليهما هنري حلو. يبدو حمادة، فعلاً، رئيساً للقاء الديموقراطي. ينتقد سيرج طورسركيسيان تدخّل لجنة الأشغال في ترسيم الحدود البحرية، فينصحه بري بأن «يلاقي شغلة غير هالشغلة»، مستغرباً اعتراضه على تعاون المجلس والحكومة. لكن إبداعات طورسركيسيان الذي يثير أجواء المرح في المجلس بمجرد أن يفتح فمه، لا تنتهي هنا. فيقول إن تعثر الحكومة يسره، لكنه يأسف لأن وزارة الاتصالات لا تحول الأموال إلى وزير المال «الذي أنا أصلاً ضده». ياسين جابر فجّرها بلفته إلى أن الحكومة أصدرت طابعاً بريدياً لقلعة الشقيف، فيما الرسم على الطابع لسرايا حاصبيا. ضحك المجلس، فيما الرئيس نبيه بري يردد: «يعملها السنيورة». أما الرئيس ميقاتي فطوى ورقة جابر ودسها في جيب سترته. فيما كان رياض رحال ينهي إحصاء الحاضرين ويسرّب إلى عاطف مجلاني ورقة كتب عليها: «الحاضرون هنا مئة، 49 موالياً مقابل 51 معارضاً، لولانا لما توافر النصاب». يتوسط بري فريد مكاري وأنطوان زهرا. اشتاق حرب إلى مقاعد الوزراء، فزار علاء الدين ترو. تنهض ستريدا مجدداً، لا علاقة لحضورها القوي بالفستان الذي يرتديها ولا للكعب الذي يزيدها ارتفاعاً عن الأرض. تخرج بهية الحريري فيلحق بها الحجّار راكضاً. يسلم حرب على إسطفان الدويهي على طريقة الشباب. أما نواف الموسوي فيبحث في الخلف عن كرسي متين. يلعب سامي بالقلم. يجاور محمد رعد علي حسن خليل وحسين الحاج حسن على مقاعد الوزراء. تثير الثنائية الشيعية انتباه مجدلاني. مسك الختام لجلسة كهذه لا يكون إلا مع فريد حبيب، ليعلن بعده الرئيس بري، نحو الساعة الأولى، بدء التشريع.
في النتيجة، ماذا فعل نواب الأمة بعد طول انتظار لهذه الجلسة التشريعية؟ أضاعوا نصف الوقت المحدد لها بمداخلات سياسية تمتلئ بالمزايدات والاستعراضات، ولا تقدم ولا تؤخر. واللافت أن بعض هؤلاء النواب يتصرفون جدياً باعتبارهم «كاراكوز الصف» فيسعدهم ضحك زملائهم عليهم، ويتسابقون لسماع تأنيب «الأستيذ». مع العلم بأن المعارضة الجدية لاقتراح كنعان سحب طلبات الكلام السياسي ما دامت المواقف السياسية لن تتبدل، جاءت من رئيس كتلة المستقبل فؤاد السنيورة، المعروف ببخله الشديد (أيضاً) في عدم تضييع «قرش» من الوقت.
ويشار في هذا السياق إلى أن أكثر النواب تفلسفاً وتنظيراً هم أقلهم اجتهاداً في التشريع. فيصح بين الحين والآخر سؤال بعض النواب، مثل جورج عدوان ومحمد الحجار وقاسم هاشم وسيرج طورسركيسيان ونواف الموسوي وشانت جنجنيان وعلي خريس ونديم الجميّل ومروان حمادة وفؤاد السنيورة، عن عدد إقتراحات القوانين التي تقدموا بها خلال ولاياتهم، علهم يجتهدون لتتوازن نحو واحد في المئة مع عدد طلباتهم للكلام.

السابق
«سذاجة» المعتدى عليهم.. ومحنتنا الأخلاقية
التالي
الجلسة الأولى في محاكمة شاملة