السفير : حسني مبارك ونظامه في القفص

كتبت "السفير" تقول ، حبست مصر أنفاسها، صباح أمس، في انتظار مشهد لم يكن ليخطر على بال احد من المصريين، والعرب عموما: حسني مبارك الذي حكم البلاد 30 عاماً حتى خلعه المصريون في شباط الماضي، وهو يدخل قفص المتهمين في قاعة أكاديمية الشرطة ليبدأ ما سمّي بـ"محاكمة القرن". وأثناء الساعات الطويلة للجلسة التي بدأت في العاشرة صباحاً، وانتهت عند الثانية ظهراً، بدت مصر و كأن آلة الزمن قد توقفت عندها، حيث خلت الشوارع – وخاصة في القاهرة – من السيارات بينما تسمر عشرات الملايين أمام شاشات التلفزيون ليشاهدوا بأعينهم مبارك وابنيه وهم يجسدون واقعهم كـ"متهمين" يُحاكمون بتهم قتل المتظاهرين والتربح وتسهيل بيع الغاز المصري لإسرائيل بأقل من سعره.
وعكس الهوس الإعلامي الذي دار منذ مساء الأحد وحتى صباح المحاكمة، بسؤال "هل سيحضر مبارك المحاكمة أم لا؟" درجة التشكيك لدى المصريين حتى آخر لحظة تجاه مبدأ محاكمته أصلاً. وكان طبيعياً أن يستبدل هذا التشكك بصدمة ظهور مبارك على سريره بعدما نقلته مروحية من مستشفى شرم الشيخ، الذي يقيم فيه منذ قرار حبسه في نيسان الماضي، بينما وقف ابناه علاء و جمال أمامه بزي السجن الأبيض المخصص للمتهمين، في محاولة لمنع الكاميرات من تصويره… بينما كان المئات في الخارج يصرخون: "السفاح".
صدق المصريون، والعرب، ما لم يكن ليصدقه عقل منذ أشهر قليلة: رئيس عربي سابق، خلع بثورة شعبية، ولاحقته ضغوط الشارع حتى فرضت مثوله امام محكمة.
وفي غمرة الأعصاب المشدودة داخل القفص وخارجه، أرهق الجميع أمس في باقة من المشاعر القوية، التي تراوحت بين الشماتة، والشعور بالانتصار، والتعاطف، والانتقام، طوال الساعات الأربع للجلسة، ولساعات طويلة بعدها. وربما يكون المشهد في أكاديمية مبارك للشرطة، ورئيس مصر السباق يحاكم فيها، قد طغى بالفعل على لحظة تنحيه عن الحكم، وحُفر في ذاكرة كل من عاصره، بغض النظر عن الحكم الذي سينطق به القاضي في نهاية المحاكمة.
ولم ينافس نجومية حضور من كانوا خلف القضبان بثقلهم السياسي – بمن في ذلك وزير الداخلية السابق حبيب العادلي وستة من مساعديه – سوى القاضي احمد رفعت الذي أدار الجلسة بحنكة وحرفية بدت مريحة للمتهمين والمدعين بالحق المدني والنيابة العامة، المحرك الرئيسي للقضية.
وعند الساعة الثانية بعد الظهر، أعلن رفعت استمرار المحاكمة اليوم للنظر في قضية العادلي ومعاونيه، وتأجيل النظر في قضية مبارك وابنيه حتى 15 آب. كذلك قضى بإيداع حسني مبارك المركز الطبي العالمي، التابع للقوات المسلحة والذي يقع على طريق القاهرة – الإسماعيلية. وبذلك تنتهي علاقة الرئيس السابق بشرم الشيخ التي احتلها منذ خلعه حتى صباح أمس.
وتعد أخطر تهمة يواجهها مبارك والقيادات الأمنية، الاشتراك الجنائي مع العادلي في القتل العمد والشروع في قتل متظاهرين سلميين، والتي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، وتمثل العنصر الشائك في المحاكمة كلها، لأنها تهمة جنائية. وبحسب القانون الجنائي، يجب إثبات ان متهما بعينه قد قتل شخصاً أو أشخاصا بعينهم. والأمر اللافت في المحاكمة ان جميع المتهمين شركاء، سواء بالتحريض أو إصدار أوامر بالقتل، لكنهم لم يقوموا هم بحمل سلاح لقتل متظاهرين. أما الضباط المتهمون بفعل قتل المتظاهرين، فيحاكمون في قضايا منفصلة. وبحسب القانون الجنائي لا بد من وجود الركن المادي – أي من نفذ إطلاق النار – في القضية.
وفي غمرة الحدث ودلالاته السياسية العظيمة، لم يتوقف الإعلام كثيراً عند هذه التفاصيل التي قد تدفع بتبرئة المتهمين، كما يقول ضياء رشوان، الخبير السياسي في مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية.
وقد تفسر هذه الخلفية سبب الثقة التي ظهر بها المتهمون، بهيئتهم الواثقة المرتبة. فعلاء وجمال مبارك كانا، بزيهم الأبيض للمتهمين، أنيقين، حليقي اللحية، بشعر مصفف كما عهدهم المصريون في السابق. حسني مبارك ظهر بشعره المصبوغ سواداً. وحبيب العادلي، برغم زي السجن الأزرق الذي كان يرتديه (كونه الوحيد ضمن المتهمين الذي ينفذ حكم السجن ?? عاما في قضية أخرى) وقف متحدياً، هو وأعوانه.
المحاكمة لم تكن عادية، فجميع الضباط الذين يتولون حراسة المتهمين، وصلوا إلى مناصبهم في ظل حكم مبارك، ولذلك، لم يكن مستغرباً قيام ضباط ولواءات في الشرطة بالإقبال عليهم وهم يغادرون المحكمة في طريقهم إلى سيارات الترحيلات للسجن، لمصافحتهم بحرارة. والأدهى ان اثنين من المتهمين في قضية العادلي يعملان في مناصب حساسة في وزارة الداخلية، ولم يصدر النائب العام قراراً بحسبهم حتى الآن.
وكانت الكلمات القليلة لمبارك وابنيه خلال الساعات الأربع للجلسة هي الحدث الأبرز والأكثر إثارة لأنها جاءت بعد مرور أكثر من ساعة ونصف ساعة على بدء الجلسة، تخللتها استراحة عند الساعة الحادية عشرة والنصف، طال انتظارها. تعين على القاضي إثبات حضور جميع المتهمين، فرفع مبارك ذراعه الأيمن، وتحدث عبر الميكروفون بصوت قائلاً "أفندم… كل هذه الاتهامات أنكرها". أعقبه كل من علاء و جمال اللذين كررا العبارة ذاتها: "أنكرها جميعها" و"أنكرها تماما". ولوحظ بوضوح قيام علاء وجمال بحمل مصحفين في أيديهما طوال الجلسة.
وأحيلت قضية قتل المتظاهرين التي يحاكم فيها حبيب العادلي في 25 تموز، وكانت منفصلة عن قضية مبارك وابنيه، إلى القاضي احمد رفعت بعدما أعلنت دائرة أخرى في محكمة الجنايات ضمها للأولى، كون الاثنين يتشاركان تهمة قتل المتظاهرين نفسها.
ويتولى عملية الدفاع عن المتهمين فريد الديب، المحامى الشهير بأدائه الذي يغلب عليه الطابع المسرحي في المحاكم المصرية والمعروف بتوليه قضايا مثيرة للجدل أو سيئة السمعة كالدفاع عن الجاسوس الإسرائيلي الذي كان يقيم في مصر عزام عزام عام 1997، وعن هشام طلعت مصطفى الذي أدين بقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم عام 2009.
وفي هرج ومرج، سببته كثرة المحامين في القاعة، تحدث الديب مرتين فقط ليطلب في الأولى من المحكمة إعادة القضية إلى المحكمة السابقة، إي إلى القاضي عبد السلام جمعة، لأنه تم رد المحكمة التي يرأسها، وبالتالي لا يجوز ان تقرر ضم القضية إلى أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن دعوى الرد لا تزال أمام محكمة الاستئناف التي لم تعلن موافقتها على الرد أصلاً. وفي المرة الثانية، تقدم الديب بسبعة طلبات للمحكمة، أهمها سماع شهادة "جميع شهود الإثبات الواردة في أدلة الثبوت ويبلغ عددهم 1631 شاهدا"، وسماع شهادة المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة، "لأنه تولى المسؤولية منذ عصر 28 كانون الثاني" عندما نزل الجيش بعد أحداث "جمعة الغضب".
وحسب ما قال القاضي في مجلس الدولة عماد البشري لـ"السفير" فإن الديب يتحرك في مساحة إطالة المحاكمة، حيث ان طلب سماع هذا العدد من الشهود سيعني شهورا طويلة في حال وافقت المحكمة على طلبه. واعتبر البشري أن طلب استدعاء طنطاوي يعد من التكتيكات المعروفة في القضايا الجنائية حيث يلجأ الدفاع إلى طلب شخصيات تتمتع بحصانة كشهود، حتى إذا لم تستجب المحكمة، يستطيع الدفاع ان يطعن في بطلان إجراءات المحاكمة.
إلا ان البعض اعتبر طرح الديب لاسم طنطاوي بهذا الشكل قد أتى لأغراض سياسية أيضاً. وقالت رباب المهدي، أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، لـ"السفير"، إن الرجل أرسل "رسالة قوية وتحذيرية" مفادها تحويل الأنظار إلى "دور" المجلس العسكري في أحداث ما بعد 28 كانون الثاني، مثل "موقعة الجمل" في الثاني من شباط الماضي، والتي سقط فيها عدد كبير من القتلى، لكن البشري استبعد هذا التوريط لطنطاوي لأنه "ظل حتى 11 شباط وزيراً للدفاع فقط، وبالتالي لا تقع عليه مسؤولية سياسية قبل هذا التاريخ عندما أصبح رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلم حكم البلاد".
ولم يقرر القاضي بعد قبول طلب فصل قضية مبارك عن العادلي وإعادتها للمحكمة السابقة. وقرر رفعت مثول العادلي مع مساعديه الستة اليوم من اجل حضور جلسة فك إحراز القضية الخاصة بهم. أما مبارك وابناه فلم يتم استدعاؤهم لجلسة اليوم لأنه لا يوجد إحراز في قضيتهم.
وشهدت ليلة محاكمة مبارك استنفارا امنياً في وسط القاهرة، خاصة في ميدان التحرير بعدما قامت الشرطة العسكرية بفض اعتصام – في الأصل لأسر شهداء الثورة – مستمر منذ الثامن من تموز، حيث استخدمت القوة ولجأت فيه للعنف واعتقلت 111 شخصاً. واستمر التوتر في أنحاء الميدان بين كر وفر للمتظاهرين الذين طاردهم الأمن حتى وقت متأخر من مساء أول من أمس في ما يبدو انه مرتبط بالمحاكمة التي لا يريد الجيش ان تؤدي إلى تنظيم تظاهرات في وسط القاهرة مرة أخرى، بعدما أصبح الميدان تحت سيطرة الشرطة العسكرية.
ولم يكن المشهد أمام أكاديمية الشرطة أفضل، حتى قبل بدء المحاكمة، عندما اشتبك أنصار مبارك مع متظاهرين، أمام عشرات الصحافيين الذين فشلوا في الحصول على تصريح حضور المحاكمة، وظلوا منذ الفجر هناك، انتظاراً للحظة التاريخية.
ما سيحدث في الأيام المقبلة ليس واضحاً بعد. فبرغم حسن سمعة القاضي احمد رفعت المعروف بنزاهته، قد لا ترقى المحكمة وإجراءاتها المحكومة بالقانون إلى التطلعات السياسية لدى المصريين الذين لا يتوقعون حكماً اقل من الإعدام.

السابق
بلمار يدرس عناصر أرسلها له حزب الله .. والأخير ينفي ارسالها
التالي
المستقبل : ميقاتي يتغاضى عن التشبيح وجنبلاط يرفضه ويدافع عن الحريات الاعلامية