الجلسة الأولى في محاكمة شاملة

تواصل مصر، بزخم ثورة شعبها العظيم، كتابة الصفحات الأولى من التاريخ العربي الجديد. 
ولأنها مصر فهي تنجز هذه المهمة الجليلة بهدوء يتناسب مع خطورة قدراتها وموقعها وتراثها النضالي العريق وإحساسها المكين بجدارتها وأهليتها لدورها القيادي الذي لا بديل منه. 
لقد وضعت مصر، بالأمس، الأربعاء الثالث من آب 2011 نقطة النهاية لعصر الاستبداد والطغيان الذي غيّب الأمة عن ذاتها فخسرت حاضرها وحقها في صناعة المستقبل الذي صادره أعداؤها لكي يحبسوها في زنزانة الماضي. 
وإذا كانت تونس قد سبقت بانتفاضة البوعزيزي، فإن الشعب الذي أراد الحياة قد اندفع بالمهمة إلى غاياتها مع ثورة مصر التي أرست دعائم الطريق إلى الغد في مواجهة الطاغوت المسجى على سرير جرائمه في القفص، يحيط به إبناه ووزيره الذي حاول اغتيال الثورة فجرفته إرادة الثوار لينتهي به الأمر في زنزانة القتلة، في انتظار الحكم «باسم الحق والعدل». 
لم يدخل حسني مبارك وحده، أمس، إلى القفص في المحكمة التي نصبتها إرادة الشعب لمحاسبته عن جرائمه الخطيرة، بل دخلت معه زمرة من أهل النظام العربي الذين اتخذوه مثالاً وقدوة فبغوا بقدر ما بغى وأكثر، وأفسدوا بقدر ما أفسد وأكثر، فأفقروا البلاد والعباد، ودمروا العلم والاقتصاد، وزوّروا إرادة الناس ليتحكّموا بهم جيلاً بعد جيل، واختصروا الأوطان ـ على اتساعها وكفاءة أهلها ـ في أشخاصهم ومعهم أسرهم وزمرة من المنافقين والسماسرة من باعة البر والبحر والفضاء لكل من اشترى ولو كان عدواً مبيناً. 
بهذا المعنى فإنها محاكمة جماعية هذه التي عقدت جلستها الأولى، أمس، في أكاديمية الشرطة في مصر الجديدة، التي أعطاها المنافقون اسم حسني مبارك، تتناول شركاءه وأقرانه ومقلديه من أهل النظام العربي في المشرق والمغرب وما بينهما. 
بل هي محاكمة لعصر كامل من التفرد بالقرار، بينما ملايين الشعب مهمشة ومبعدة ومحقرة، ولنهج في الطغيان صار تقليداً «عربياً» فريداً في بابه، ولمدرسة في الفساد والإفساد أُجبر الشعب جميعاً على اعتماد مناهجها، ولنمط من التجبر والاستعلاء سرعان ما اتبعه بعض من المعجبين بالفرعون على كراهية لشخصه، أو من كارهيه الذين رأوا أنهم أولى منه بأن يستمروا في السلطة، بعدما نجحوا في استئصال الخصوم والمنافسين، أحزاباً كانوا أو مؤسسات اجتماعية أو ثقافية أو تربوية، أو أفراداً يكن لهم مجتمعهم احتراماً بسبب من إخلاصهم لوطنهم وأهلهم فيه. 
إنها محاكمة لأنظمة القتل والنهب وتزوير الإرادة وتملق العدو وإبعاد الأخ الشقيق والشريك في المصير والصديق في مواجهة الطامعين وناهبي ثروات الشعوب. 
وهي محاكمة لمن حوّلوا إسرائيل من عدو مبين إلى شريك مضارب، يدفعون له من ثروات وطنهم، بشعبه الكادح والمفقر، لكي ينالوا «سمسرة» تحقر موقعهم السامي وتسيء إلى كرامة بلادهم التي نازلته في حروب عدة دفع فيها مئات ألوف الشباب حياتهم من أجل حرية مصر وحقوق شعبها فيها. 
إنها محاكمة لأهل النظام العربي جميعاً، بملوكهم والأمراء، بالرؤساء الذين افترضوا أنهم مخلّدون، والمشايخ الذين صيّروا أنفسهم سلاطين. 
… وهي الجلسة الأولى في محاكمة القرن العربي الأول الذي استولدته الثورة ليكون تاريخنا الجديد.

السابق
قلتَ «مشترع»؟ نوّاب للحكي والفرفشة
التالي
سمير فرنجية: الدفعة الثانية من مذكرات التوقيف الدولية ستفجر الحكومة وتؤدي إلى رحيلها