خيار التغيير في سوريا

منذ بداية حركات الاحتجاج السلمية في سوريا لخمس أشهر خلت، لم يكن خيار النظام في مواجهتها غير خيار القمع والعنف.
هذا هو الجواب على من لا يزال يتساءل عن لغز التناقض بين اقوال النظام السوري وأفعاله. وظيفة الأقوال صرف الأنظار عن الأفعال ريثما تحقق الأفعال المرجو منها. ومن يرد إثباتاً على هول هذا التناقض ما عليه إلا ان يقارن اعلان نائب رئيس الجمهورية العربية السورية عن تقديم اقتراحات لتعديل للدستور خلال شهر ودعوة «مؤتمر للحوار الوطني » للانعقاد خلال ثلاثة اشهر- على ما في ذلك من تسويف وتأجيل اصلا- مع ما تلاه بعد ايام معدودة من اقتحام مدينة حماه وسقوط اكبر عدد من الضحايا في يوم واحد حتى الآن.
منذ الأسابيع الاولى للاحتجاجات، عندما تزامن استبدال قانون الطوارئ بقانون مكافحة الارهاب مع قمع اعتصام «ساحة الساعة» في حمص، صار للوعود بإجراءات قانونية، او الاقدام على تلك الاجراءات، وظيفة التسويف والاستمهال والمماطلة والتذاكي بانتظار ان ينجح القمع الأمني العسكري في إخماد الانتفاضات والتظاهرات والاعتصامات. ولم تكن تلك الوعود والاجراءات من غير ما «شيفرة»، إذ كانت موجهة بالدرجة الاولى الى الخارج على شكل رسائل تطمين او تهدئة او استمهال لقوى غربية مشغولة بما فيه الكفاية من افغانستان الى ليبيا أسقط في يدها حجم الانتفاضات السورية وعجز النظام عن التعاطي معها.او هي استخدمت لإعطاء الدول الرافضة لتدخل الامم المتحدة في الشؤون الداخلية لسوريا، حججاً إضافية لعرقلة مشاريع استصدار القرارات والعقوبات.
هذا هو منطق اللألأة الإصلاحية – الدموية – الثرثرة الاصلاحية والافعال الدموية – يطلق سراح المئات من المعتقلين على دفعتين، او يعِد بذلك، ثم يعود لاعتقال الألوف المؤلفة، في طول البلاد وعرضها، تفيض بهم السجون والمعتقلات، ويضيف اليهم نوعاً جديداً من الضحايا هم فئة المفقودين الذين يربو عددهم على ثلاثة آلاف.
وهذا هو منطق اللألأة الاصلاحية – الدموية يغرق حماه بالدم، ويأمر الجيش باقتحام دير الزور والبوكمال ودرعا وغيرها من المدن والقرى والضواحي والأحياء ويصدر، في الوقت نفسه، قراراً رئاسياً بتخفيض قيمة البدل المالي للخدمة العسكرية الالزامية.
وهذا هو منطق اللألأة الاصلاحية – الدموية يرطن بـ«الفتنة» وبمسيرة «الاصلاح الشامل » على لسان واحد. يعلن «وأد» الفتنة فيما تتسع دائرة القمع والاعتقالات والاقتحامات وإطلاق الرصاص على التظاهرات المدنية السلمية، في وضع انتقلت مواجهة السلطة من اعتماد القمع الامني – العسكري الى حرب دبابات ومدفعية يزجّ فيه جيش ضد شعبه. وهي حرب بدلا من ان تنجح في إخماد الانتفاضات على مدى خمسة اشهر، ادت بالعكس الى توسيع نطاقها وامتدادها الجغرافي وعمقها البشري وجذرية مطالبها. بل اسوأ من ذلك: بات هذا النوع من العجز الدموي حاضنة لتفقيس كل انواع الاصوليات والتكفيريات والعصبيات المذهبية بحجة مكافحتها. وفي الوقت الذي تتمخض به «مسيرة الاصلاح الشامل» عن مشاريع تعديل لقوانين الاحزاب والانتخابات والإعلام التي لم تقنع حتى من طبّل لها وزمّر من المجتمعين في «اللقاء التشاوري»، بات القسط الاوفر من الرأي العالم السوري موقناً ان ادنى إجراء او اصلاح بات يتطلّب التغيير الشامل للنظام.
لم يتجاوز الوضع مثل هذه الإجراءات وحسب بل انه يفرض اعادة النظر في مركزية مطلب تعديل المادة الثامنة من الدستور المتعلّقة بالدور القيادي – الوحداني عملياً – لحزب البعث في الدولة والمجتمع. نتحدث عن مركزية المطلب من دون التقليل من اهميته بقدر ما نتوخى عدم تحويله الى ما يختزل الازمة ويترأس الحلول. فهناك من يريدنا ان نصدّق ان حزب البعث يحكم في سوريا وأن خطأه هو قلة علمانيته او ان المعركة هي بين الحزب والشعب في سوريا. ان المعركة الدائرة رحاها الآن في سوريا هي بين الشعب والنظام، وما حزب البعث، في احسن الاحوال الا جزء من ذلك النظام وليس كله، وهو ليس بالتأكيد مركز القرار الفصل فيه. وطالما ان الموضوع مطروح على هذا النحو، لا بد من التحذير من تكرار التجربة العراقية بتحميل حزب بأكمله وإدارة بأكملها وقوات امنية وعسكرية برمتها ومذهب بأكمله جرائر قلة حكمت باسم هذه وتحكمت بها جميعا.
للنظام السوري بنيانه وللحكام أسماء. ليتحمّل الحكام مسؤولياتهم عن افعالهم وعنفهم والفساد. وقد دلّت التطورات الاخيرة انه لا يوجد في هذا النظام من هو فوق النظام او خارجه. بالتالي ليس فيه من يريد او من يستطيع ان يقود عملية الانتقال من النظام الحالي الى تعاقد جديد بين الشعب السوري ودولته. من هنا الحاجة الى مؤتمر تأسيسي يتفق على شكليات العلاقة الجديدة بين الحكام والمحكومين.
قاعدة النظام الحالي دستور يمحض صلاحيات استثنائية شبه مطلقة لرئيس الدولة. فلا معنى لأي بحث في الخروج من الازمة، ولا في صياغة تعاقد سياسي جديد بين السوريين، الا اذا قلب الدستورُ الجديد المعادلة السياسية رأساً على عقب. اي ان يشرّع لتحويل نظام رئاسي يرتكز الى غلبة السلطة التنفيذية، في ظل صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، الى نظام برلماني قائم على الشرعية الشعبية المعبّر عنها بواسطة الانتخابات الحرّة، نظام تخضع فيه السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية التي تختارها وتمنحها الثقة وتسائلها وتحاسبها وتقاضيها وتستبدلها عند الحاجة.
هذا هو التطبيق العملي لشعار «الشعب يريد».

السابق
أردوغان يرث أتاتورك ويحكم العسكر كالسلطان
التالي
12 عملية لزرع الكلى في مستشفى الحريري