الأمين: «حزب الله» يزرع في ذهن مناصريه فكرة معاداة الدولة ليهيمن على كل شيء في لبنان ويمنع قيام الدولة

يقدم الباحث في العلوم السياسية والدراسات الحكومية اللبناني السيد هادي الامين رؤية مغايرة للسائد في ما يتعلق بثنائية الدولة والدويلة في لبنان التي اوجدها السلوك السياسي ل¯”حزب الله”, ويرى ان هذا الحزب اظهر الطائفة الشيعية على غير صورتها الحقيقية, وهو في سلوكه هذا يمثل حظرا عليها, بل على كل الطوائف اللبنانية, ويعتبر ان “من لا يمتلك قرار الضغط على الزناد, لا يملك قرار تسليم سلاح “حزب الله” للدولة”.

ويدحض الامين نظرية الامين ل¯”حزب الله” في ما يتعلق بعدم الخيانة والاختراق لصفوف “حزب الله” واضفاء صفة القدسية على المتهمين باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري, وذلك من خلال ايراده في متن اجابته عن سؤال في هذا الشان لعدد من الامثلة التي وقعت احداثها مع عدد من الانبياء وبعض الخلفاء الراشدين.

ينتقد الامين الازدواجية الايرانية في وضع المعايير, واسلوب التعامل مع المواطنين وفي دعمها للنظام السوري, اضافة الى خلعه صفة القداسة عن النظام السوري التي يحاول الاخير اظهار نفسه عليها عبر رفعه شعار الممانعة.
تطرق الامين في حديثه الى “السياسة” الى الكثير من القضايا التي تشهدها الساحة العربية حاليا, وفي ما يأتي نص الحديث:

كيف يمكن تلخيص عقائد “حزب الله” السياسية والدينية, وما المشروع العام الذي يتبناه وما اهدافه المرسومة?
قبل الاجابة عن هذا السؤال, لابد من الاشارة الى “حزب الله” كحركة سياسية اسلامية تورط في السلوك السياسي ذاته الذي تورطت به كل الحركات الاسلامية السياسية التي سبقت نشاته, وهو تحويل الاسلام _ كلٌ حسب فهمه ومذهبه _ الى اسلام سياسي, اي الى قوة سياسية ضاغطة وفاعلة في المجتمع, ادت فيما ادت الى تعميق الانقسام داخل البنية الاسلامية وتحويلها الى تنظيمات ومجموعات حركية متصارعة, مرة تتصارع فيما بينها, ومرة تتصارع مع السلطة القائمة وعليها, ومرة تتصارع مع المجتمع.

طبعا, هذا من جملة الامور المُهْلِكة التي وقع بها “حزب الله”, وهي انتقاله من حركة اسلامية توعوية _ كما شُبِّه للبعض ممن تركوا ساحته لاحقا _ وظيفتها الارشاد والتثقيف الديني, الى حركة سياسية مسلحة, مرة تقاتل اسرائيل, ومرة تقاتل الدولة القائمة, ومرة تسعى الى السلطة, ومرة تتدخل في شؤون دول اخرى, ومرات تنفذ مشاريع سياسية لدول خارج الحدود الجغرافية للبلد الذي تعيش فيه.

وعليه, فان “حزب الله” بذهابه في تطبيق آلياتٍ مُعَقمةٍ بايديولوجيا مُحَنطَة, ت¯َورطَ في تدعيم مشروعٍ لم يهندس معالمه, وعقيدة دينية وسياسية لم يساهم في بلورتها. اما المشروع العام, فهو بلا شك مشروع ما يُسمى دولة الحق في المنطقة والعالم بكل ابعاده ومفاصله, اي مشروع الدولة الايرانية والذي كان “حزب الله” احد ناقليه من طهران الى ساحل المتوسط, وافريقيا, والخليج العربي, واميركا اللاتينية, وبالتالي, واحدا من المدافعين عنه, والمساهمين في ترغيب اخرين وترهيبهم ليكونوا ادوات دفاع فاعلة عنه. هذا في ما خص المشروع, اما في ما يتعلق بالعقيدتين الدينية والسياسية, فانهما عقيدتان لا تحتملان الانفصال, ذلك ان العقيدة السياسية كي تتغلل في عقول الناس وتفعل فعلها في التاثير في سلوكهم السياسي والثقافي والنفسي والاجتماعي, فانها تحتاج الى رافعة دينية, اي عقيدة دينية متطرفة, خلاصتها, في حالة “حزب الله”, انتاج عقلية شيعية لا تتلقى سوى عقائد الاضطهاد ومشاهد الماساة, وبالتالي جعل الشيعة مجموعة متوحدين يبحثون عن كينونة خاصة بهم, حالمين بمشروعين, الاول يقول بانفصالهم عن الاخرين المختلفين في اوطانهم, اما الثاني فيقول باتصالهم مع باقي المستضعفين في الارض بدولة العدل الالهي المزعومة.

هكذا, ومن خلال هذه الالية التي تجعل الشيعة مجموعة تابعة, يخرج “حزب الله” مرتاحا الى الدائرة الاوسع, اي الى المجموعات المُضطَهدَة الاخرى في العالم, حاملا عقيدة سياسية صلبة, وظيفتها توسيع قنوات “دولة الحق” الذي هو احد اهم اذرعتها, والهاء اعدائها, والانتقال تاليا الى قيادة المستضعفين في الارض. بالمناسبة, اتذكر تصريحا للامين العام ل¯”حزب الله” يفيدنا في هذا المقام, يقول فيه بان حزبه اكبر بكثير من الطائفة التي ينتمي اليها مناصروه, واكبر من اي طائفة اخرى, بل هو اكبر من اي كيان سياسي قائم, وبان مشروع حزبه لا تنتهي اهدافه عند حدود لبنان مع فلسطين لان ذلك لا ينسجم مع طموح حزبه وبنائه الفكري وحجمه ووهجه والالتفاف الشعبي العظيم حوله. ماذا يعني هذا الكلام? هل يعني ان “حزب الله” يتمدد الى مصر ليؤذِّن في الناس? وهل يعني هذا الكلام ان “حزب الله” يتمدد الى الخليج العربي لينصح الناس بوجوب اداء فريضة الحج? وماذا عن اميركا اللاتينية, هل بناء المساجد في الاكوادور وادارتها هو لتعليم الصلاة والصوم? ام ان تلك المساجد تُستعمل لوظيفة سياسية تتخطى موضوع العقائد الدينية لتصل الى زرع بذور لعقائد سياسية حزبية لا تنتج الا مزيدا من عدم الاستقرار? ماذا عن البرازيل, الارجنتين, الباراغواي? ماذا عن اذربيجان? هل تواجد “حزب الله” في كل هذه الدول هو لخدمة الاسلام والمسلمين ودعوتهم للتقرب الى الله عزَّ وجل? وعلى تقدير نزاهة الهدف, بماذا استفاد المسلمون عموما, والشيعة خصوصا, بماذا استفادوا كبشر لهم احتياجاتهم ممن هو اكبر من “حزب الله”, اي من الدولة الاسلامية في ايران? على كل حال, ومع الاسف, لقد استطاع “حزب الله” وبدعم مالي وسياسي وعسكري هائل, لا ان يروج لنفسه فحسب, بل ان يحفر عميقا في جزء لا يُستهان فيه من العالم, حيث الجهل مستفحل, والفقر مستشرِ, وحيث الدول اكثرت في التقصير تجاه ناسها وشعوبها, وفي كل ذلك, اهانة للدولة الوطنية, واهانة للاسلام والشيعة, وزج لهم في انشطة لا يشرعها قانون ولا منطق.

بنظرك, الى متى سيبقى التعايش ممكنا بين مشروع الدولة اللبنانية وبين مشروع “حزب الله”?
اسمحي لي يا سيدتي ان اتشعب قليلا في الاجابة. اولا, لا ارى ان هناك تعايشا بتكويناته الطبيعية, بل تساكنا بمستلزماته الهشة. اقول ذلك, لوجود استحالة في التعايش بين فكرتين ومشروعين متناقضين , وهنا, كي لا نبقى نعيش المراوحة بين الصِّياحِ والمُكابرة, دعينا نسوق سويا في مسعى متواضع الى توضيح المقاصد والمعاني لهذا التساكن الهش, بل قولي, الانفصال القائم بين المشروعين, اي مشروع الدولة ومشروع “حزب الله”. لعل انفصال “حزب الله” _ بما يمثل من ذراع ستراتيجية للنظام في ايران _ عن الدولة, لم يكن مصادفة تاريخية لها شروطها السياسية, بل جوهرا ثابتا, بل قولي, تلقائيا, اي متأسسا في الاساس على استقلال مطلق في الامن والايديولوجيا والسياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد والفهم والسلوك والعادات. هذا على الاقل, ما تقوله التراكمات التاريخية التي تكونت منذ نشوء “حزب الله”, والتي تتمثل واقعا وحقيقة في الضاحية الجنوبية لبيروت, التي عاشت, بل كانتا مسرحا, الى جانب الجنوب اللبناني, كانتا مسرحا لتراكم امني وسياسي واجتماعي ونفسي وثقافي واقتصادي صارا من خلاله امرا واقعا, اي “دويلة واقعة” تعصى على التجاهل. هذه الدويلة, والتي اسسها “حزب الله” طبعا, كان الهدف من تاسيسها واحدا من امرين, او قولي, الاثنين معا : اما “تنغيص” عيشة الدولة الطبيعية, او الانطلاق من شبه دولة تحتل لاحقا كل الدولة. في الاول, فان “استحباب” تنغيص عيشة الدولة, ينطلق من الحاجة الى وجود دولة لبنانية قابلة للاهتزاز ابدا, لا بل مهتزة مهتراة هرمة, ذلك ان “حزب الله” لا يستطيع العيش, بسبب تركيبته والاهداف, لا يستطيع العيش الى جانب دولة طبيعية مستقرة. اما في الثاني, فان وجوب السيطرة والتوسع والاستئثار, مثلثُ النظرية الايرانية, يستدعي الانطلاق بهيكلية دولة مصغرة, تكون معبرا للامساك لاحقا بكل مفاصل جارتها, اي الدولة اللبنانية. وكي تكتمل صورة الدولة بهدفيها, متحدين او منفصلين, خلق “حزب الله” لدويلته اسُسَ وجودها واستمراريتها المادية, وقام محاولا يصنع لمناصريه هوياتٍ ثقافية خاصة في معمله الايديولوجي تفرقهم عن اخوانهم من اللبنانيين, معملٌ, اقل ما يُقالُ فيه, مُتْقَنُ الاداء. ولاحظي معي, لم يقتصر المعملُ الايديولوجي هذا على صنع هويات مختلفة عن اللبناني الاخر, بل توسَّع لكي يصبح معملا امنيا بذراعين طويلتين, واحدة تغلق الضاحية, تنظم امنها, وتحولها الى ثكنة عسكرية ممنوع على اجهزة الدولة دخولها, والاخرى تسرق حرية الناس وتمتد خارج حدود الدويلة لتعتدي على هيبة الدولة متى استدعتُ الحاجة فعل ذلك. هذا المعملُ توسَّع ايضا ليصير معملا اقتصاديا يُوَّزعُ مغانم “اقتصاد الضاحية السيادي” على المنتسبين اليه من الناس, وذلك عبر المصالح الاقتصادية الكبرى التي انشاها بحجة دمج فئات المكتدحين من الناس وادخالهم في دورة اقتصاد حلال يستفيدون من خلالها.

هذه المشهدية خلقت وزرعت في نفوس مناصري “حزب الله”, وعن قصد طبعا, جوا معاديا حتى لفكرة اسمها دولة, وهذه المشهدية اغرقتهم وطمرتهم في مستنقع مذهبي وطائفي ضيق يملأ عليهم وعيهم والتصرف. على كل حال, صارت هذه “المعامل الثلاثة” حقائق تفرض نفسها بقوة, بل, تهدد وجود الدولة اللبنانية, ناهيك عن عبثها الواضح بالسيادة وضربها بعرض الحائط مكونا اساسيا من مكونات الدولة الطبيعية, ولعل هذه “المعامل” الثلاثة تفيض عن حاجتنا للاستدلال على ان “حزب الله” يساكن مكرها الدولة اللبنانية, بل ينفصل عنها من دون اشهار. من هذا المنطلق انا لا ارى اي امكانية للتعايش, بل ارى ان “حزب الله” يستعين بحقائق دولته ويرسخ وعيا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا وامنيا جديدا يكون بمثابة تجسيد ابدي لهوية لقيطة يحفرها على جباه اللبنانيين, واذا لم يُجابَه بصلابة وحكمة وروية في آن فان هناك خطرا يقول بانفراط عقد الدولة اللبنانية.

هل سياتي وقت يسلم “حزب الله” فيه سلاحه للدولة اللبنانية? وفي اي ظروف قد يحدث هذا الامر?
من لا يملك قرار الضغط على الزناد, فانه بالتالي لا يملك قرار التسليم. ولكن لا مانع من قرع اذان “حزب الله” وتذكيره بان عليه ان يرتفع, او يطلب الاذن من ايران, بالارتفاع الى مستوى اجراء مراجعة شاملة لمعادلاته العقلية وطرائق تصرفه, وتحديد نوع صلته بلبنان, الدولة والارض والشعب, اي ان عليه التزاما بالقانون والدستور والمنطق والعرف والاخلاق والدين, ان يتفادى اي نشاط مخل بالامن, وبالتالي تسليم السلاح الذي يمتلك, والتصرف على اساس معادلة جديدة تُصادق على شرعية الحق اللبناني, اي حق المواطنين اللبنانيين, في وطن سيد لا وجود لاي سلاح غير ذي شرعية فيه, وفي هذا الموقف, ايمانٌ راسخٌ يقابلُ هيمنة النزعة الميليشياوية التي تنطلق من قدسية فكرة ومشروع المقاومة والممناعة والقتال, لتصل الى ارساء ستراتيجية جديدة وذهنية جديدة ومفاهيم جديدة تتخذ منها مداخل وظيفية وعملية نحو انجاز “باطل” : اسقاط مشروع الدولة الوطنية.

سبق وتناولتم مسالة مواجهة اللبنانيين لثقافة السلاح وبمقاومة ثقافية. فما جدوى مثل هكذا مقاومة?
صحيح. ثقافة السلاح, هي فكرة لا بل مشروع يتجمهر وحضارة تتكون. هذا المشروع وهذه الثقافة واضح انها تكتسب الاتباع والانصار عبر الحشد والتجييش العاطفيين, وناس هذا المشروع متاثرون عاطفيا ومسلكيا به, وفي هذا خطر على لبنان, اي قابلية لفناء الحضارة اللبنانية الاصيلة في حضارات جهادية وقتالية و”ثورجية” مستوردة لا علاقة للبنانيين بها. كيف يُواجه هذا الخطر? بالسلاح? قطعا لا.. باستعمال الاساليب ذاتها? قطعا لا. ان مقاومة هذا الخطر ومواجهته تكون حتما باعتماد اسلوب مغاير تماما, اي مقابل ثقافة الحشد والتجييش ومخاطبة الوجدان, يجب اعتماد ثقافة مدنية تتعمم بالتكوين والتربية والتثقيف العلمي والسياسي الرصين, ثقافة تخاطب العقل والمنطق وتحيل كل الامور اليهما. هكذا نصل الى تاسيس مقاومة ثقافية, جدواها في اول الامر ونهايته, حماية لبنان, الهوية اللبنانية, والمواطنين اللبنانيين وخصوصا اللبنانيين الشيعة منهم. اقول ذلك, لان “حزب الله” بمحاولته ربط اللبنانيين الشيعة به, فانما يورط بذلك المجتمع اللبناني برمته, ويعرض الهوية اللبنانية المسالمة للخطر. لعلك ستسالينني كيف ذلك? والجواب هو بان “حزب الله” بهذا الفائض من القوة الذي لديه, وبالعقلية الثورية التي تستحكم به, وبالمشروع الخارجي الذي يخطط له, يُلحِق نفسه شاء ام ابى بركب تنظيم القاعدة الذي نُبذ من مذهب اهل السنة في العالم الاسلامي, وبالتالي لم يستطع الحاقهم به وبمشروعه وجعلهم جمهورا مطيعا يلجا اليه كما يدفع ثمن ارهابه في العالم, اما في حالة “حزب الله”, ففي حال اسقاط التُهم الموجهة الى تنظيم القاعدة عليه, فالكارثة ستقع حينئذٍ على اللبنانيين الشيعة خصوصا وسيصبح مذهبهم مذهبا مطاردا في كل العالم, وستقع الكارثة ايضا على اللبنانيين عموما, سنة وموارنة ودروزا وكاثوليك وارثوذوكس بوصفهم مواطنيين يتشاركون في الهوية ذاتها مع مناصري “حزب الله” ومع عموم اللبنانيين الشيعة, ناهيكِ عن الكارثة التي ستقع على الشيعة عموماً وتهدد سلامهم الجسدي والاقتصادي والمعنوي, وكل ذلك بسبب اقحامهم في انشطة غير مشروعة. من هنا ولكل هذه الاسباب دعوت الى مقاومة ثقافية لثقافة السلاح, اي تكوين لوبي مدني بعيداً عن اي اصطفاف سياسي في لبنان يحصن الاجتماع الاهلي والنظام السياسي والهوية اللبنانية قبل حلول البلاء.

اتهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قبل اسابيع مسؤولين في “حزب الله” بتنفيذ العملية التي اودت بحياة رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري ورفاقه, كيف تنظرون الى هذا القرار? وهل تعتقدون ان “حزب الله” قام بعملية الاغتيال?
للاجابة على السؤال بشقيه معا, دعينا نعود معا الى مسالة جد مهمة. لعل معظمنا يحيلُ كل تهمة تُساقُ ضد اي متهم الى قرينة البراءة المذكورة بداية في اعلان حقوق الانسان والمواطن التي اعلنت عام 1789 مع بداية الثورة الفرنسية والمذكورة لاحقا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تبنته الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1948 وايضا تبناه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966, والتي تقول : ” يجب افتراض براءة كل شخص حتى تتم ادانته وضوحا “. ماذا يعني ذلك, استطرادا? يعني ان عبء الاثبات يقع على عاتق الادعاء الذي من وظيفته جمع وتقديم ادلة مقنعة بما فيه الكفاية لاقناع هيئة المحلفين والقضاة المأمورة والمُلزَمة بموجب القانون النظر في الشهادات والادلة الفعلية التي تم الحصول عليها بصورة قانونية, والتي تثبت بان المتهم مذنب من دون اي شك معقول. اذن, هنا ننتهي بخلاصتين : الاولى تقول بوجوب افتراض براءة المتهمين, والثانية تقول بان وظيفة اثبات التهمة او عدمها تعود الى المحكمة بجسمها المتكامل, وهي ليست من اختصاصنا على الاطلاق. اما ما اودُّ التعليق عليه بخصوص المتهمين, فهو الاتي: لم يكتف الامين العام ل¯”حزب الله” بنفي التهمة عن مساعديه واعضاء حزبه, بل ذهب مرارا وتكرارا, تلميحا وتصريحا, الى حد اسقاط القدسية على المتهمين من حزبه, حتى ظننا بعصمتهم عن الخطأ. طبعا, اسقاط القدسية معطوفة على العصمة, هو اسقاط باطل, ذلك ان الاسلام واضح في تحديده على من تقع العصمة. ثم, كيف يذهب الامين العام ل¯”حزب الله” الى القول بما قال, وهو يعلم علما يقينا ان الخيانة والاختراق ظاهرتان توَجَّدت¯َا جليا في حياة الكثير من القيادات المعصومة كالانبياء والمرسلين والاوصياء? اليس فيما يحكيه القرآن الكريم لنا, وكذلك الانجيل, خير دليل على صدقية وجود حالات خيانة واختراق في الاجتماع البشري? هنا, دعينا يا سيدتي نسوق سويا بعض الامثلة التي تدحض من خلالها زعم الامين العام ل¯”حزب الله” : ظهرت الخيانة في حياة نبي الله نوح ونبي الله لوط, وقد حكى القرآن الكريم عن ذلك من خلال قول الله عز وجل “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَاةَ نُوحٍ وَامْرَاةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ “( سورة التحريم اية رقم 10-) “وضرب الله مثلا للذين امنوا امراة فرعون اذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ” (سورة التحريم اية رقم 11 (. وفي حياة السيد المسيح (عليه السلام) ظهرت في احد حوارييه يهوذا الاسخريوطي الذي خانه وتنكَّر لمبادئه ثم باعه بقليل من الفضة.

ومن الشواهد ايضا على تواجد الخيانة ووقوعها, ما جرى مع الامام علي (عليه السلام), الذي اسْتَخْلَصَ احد قرابته, وما كان من قرابته هذا الا ان تركه عند الشدائد متخليا عنه وخائنا له, ما جعل الامام يقول عنه : “اما بعد فاني كنت اشركتك في امانتي, وجعلتك شعاري وبطانتي, ولم يكن في اهلي رجل اوثق منك في نفسي, لمواساتي ومؤازرتي واداء الامانة الي, فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب, والعدو قد حرب, وامانة الناس قد خزيت, وهذه الامة قد فتكت وشغرت, قلبت لابن عمك ظهر المجن, ففارقته مع المفارقين, وخذلته مع الخاذلين, وخنته مع الخائنين, فلا ابن عمك اسيت, ولا الامانة اديت, وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك… ” (نهج البلاغة) وايضا في حادثة اخرى حصلت مع الامام علي عندما ولي بعض اعماله لاحدهم الذي خان فيه, فيقول عنه: (اما بعد, فان صلاح ابيك غرَّني منك, وظننت انك تتبع هديه وتسلك سبيله, فاذا انت فيما رقي اليَّ عنك لا تدع لهواك انقيادا, ولا تبقي لاخرتك عتادا, اتعمر دنياك بخراب اخرتك? وتصل عشيرتك بقطيعة دينك? ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل اهلك وشسع نعلك خير منك, من كان بصفتك فليس باهل ان يُسدَّ به ثغر او ينفذ به امر او يُعلى له قدر او يُشرك في امانة او يؤمن على جباية… “( نهج البلاغة). هذه الاحداث لا نسوقها حشوا, ولا نذكرها ترفا, انما نذكرها لتذكير الامين العام ل¯”حزب الله”, بان مبدأ الخيانة موجود وواقع في حياة البشر, وهو قد حصل مع انبياء ومعصومين يحسنون حتما ويقدِرون طبعا على اختيار الصادقين ممن يُشركونهم في مشورتهم واعمالهم, الا انهم, وبسبب طبيعة البشر وطرائق تفكيرهم وضعفهم امام المغريات, لم يسلموا من الخيانة والاختراق. ولذلك, فان لنا وللامين العام ل¯”حزب الله” خير عبرٍ ودروس في ما تقدم من روايات, وهي روايات واحداث يجب ان تُعيده الى حيث يتراجع عن تقديس اي بشر واسقاط العصمة عليه, وبالتالي, افتراض خيانة مساعديه واعضاء حزبه المتهمين, ومن ثم, القبول بتسليمهم للمحكمة لترى في امرهم, فان كانوا ابرياء, باركنا لهم, وان كانوا مذنبين, فالسجن وبئس المصير.

النظام السياسي في ايران يدعو الولايات المتحدة الى وقف ظلمها في العالم في حين يمارس هذا النظام قمعا وتنكيلا بحق ابناء شعبه, وايضا يساعد النظام السوري في قمع شعبه, ما موقفكم من ذلك?
ليس من شك بان ما يجري في ايران “ممحاة هائلة للاخلاق الانسانية”. ولكن في الحقيقة, لا يفاجئني سلوك هذا النظام, ولا استعماله اميركا او اسرائيل ذريعة لتبرير الظلم الذي يسوقه بحق الناس. ذلك ان سلوكه لطالما كان موضعَا مُخصِبا وخصيبا لضروب من التمازج والخلط التلفيقي فنراه يقول الشيء فيما يعني ويفعل غيره. هنا, تكفينا العودة الى بعض من تاريخ هذا النظام لنكتشف ذلك, ولنكتشف كيف ان “الامة” التي سارت بداية خلفه تدعمه, كانت ضحية انتعاش غير مشروع لاوهام “القيادة العادلة ودولة الحق”. منذ اللحظة الاولى لولادة هذا النظام, قام قائده بمنح نفسه صلاحيات تجاوز فيها الصلاحيات الموكلة للامام الغائب المعصوم, فمنح نفسه, على ما يقول بعض الفقهاء, منح نفسه “سلطة التصرف بالدماء والاموال” في محاولة رهيبة لاسكات كل صوت مخالف. هذه السلطة التي منحها لنفسه, شرعت سطوة النظام وظلمه, فاعتقل وقتل ووضع في الاقامة الجبرية حتى رجال دين يُشهدُ لهم بالفضل والعلم, وطبعا هو نفسه لا يزال يُنكِّل برجال دين وعلماء مخالفين من المذهب ذاته ناهيك عن التنكيل الحاصل لعامة الناس. اما في ما خص المخالفين من المذاهب الاخرى, او قل المهادنين, كالعشرين مليون سني مثلا, فمنعهم من المشاركة في الحياة السياسية, او من اختيار ممثلين لهم, ولم يحصل حتى تاريخه ان عين منهم وزيرا او سفيرا, بالاضافة الى مظالم اخرى. كل هذا الظلم وكل هذا الهضم لحقوقهم وهويتهم يحصل في ظل نظام اسلامي يدعو ليل نهار الى الوحدة الاسلامية, بل يؤسس مجامع للتقريب بين المذاهب الاسلامية ! هذا في ما خص بعض سلوك هذا النظام في الداخل, اما في الخارج, فيكفي استعراض مشهدين اثنين لتبيان الظلم الذي وقع ويقع. المشهد الاول في لبنان والثاني في سورية. كلنا يذكر الحرب الشيعية-الشيعية, وكم من الابرياء سقط بسبب حلم النظام الايراني بالتوسع والسلطة والنفوذ, ولعل بعض اللبنانيين الشيعة يتذكرون تصريحا شهيرا لاحد سفراء هذا النظام يوم سأل وَاجَاب نفسه : “كم عدد الشيعة في جنوب لبنان? نصف مليون, مليون? فليكونوا شهداءً فداءً للثورة الاسلامية في ايران ” ! هذا مضافا الى الظلم الهائل الذي لحق بلبنان عموما, واللبنانيين الشيعة خصوصا, جراء استعمال الجنوب اللبناني ساحة لتصفية الحساب مع اميركا واسرائيل ومسرحا لاختبار فاعلية الصواريخ الايرانية الصنع. اما بخصوص سورية, فيكفينا ذكر مليارات الدولارات وهبات النفط التي قُدِّمت للنظام السوري قبل ايام لنستنتج بان النظام الايراني شريكٌ فاعلٌ واساسي في فعل الظلم الذي يتعرضُ له الشعب السوري. على كل حال, هذا الاستعراض لبعض الاحداث, هو للقول بان الظلم الحاصل الان في ايران, هو في الحقيقة جزء من حركية هذا النظام في الداخل والخارج, وما استعماله اميركا وغيرها من الدول, الا ذريعة غير ذي صدقية اطلاقا يهدف من خلالها الى التعمية على مدارك الناس.
كيف تنظرون الى ما يجري في سورية, وما مستقبل النظام السوري برأيكم?

لا اؤمن بالقداسة ناظمة لسلوك اي نظام. والقداسة التي يُحاطُ بها ويُحيطُ نفسه بها النظام السوري, سقطت في درعا وحمص وحماة ودمشق وجسر الشغور, وكل المحافظات والمدن والقرى السورية. اقول ذلك لان النظام السوري كان لفترة طويلة, حمَّال مشروع التحرر والمقاومة والممانعة, واذ بنا نكتشف, بان حمَّال مشروع التحرر هذا ما هو الا حمَّالُ هوية مزدوجة, وشتان ما بين الهويتين : هوية الادعاء بتحرير فلسطين واهلها من الظلم الحاصل لهم, وفي المقابل, هوية دموية يمارس من خلالها ابشع انواع الظلم قتلا وتهجيرا وسجنا وتنكيلا بحق شعبه السوري التوَّاق للحرية. هذه الازدواجية فضحت حقيقة هذا النظام وادخلته في طور ازمة بنيوية حادة لن تنفع معها بعد الان محاولات التصويب السياسي لاستعادة وضعية التوازن. واستطرادا, وللافادة والتذكير في ان, اذكر نصا للامام علي (عليه السلام), وهو جزءٌ من عهده الى مالك الاشتر بعثه اليه عندما ولاهُ على مصر, يقول له فيه منبها اياه من حرمة سفك الدم : “اياك والدماء وسفكها بغير حلها, فانه ليس شيء ادعى لنقمة, ولا اعظم لتبعة, ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها, والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة, فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام, فان ذلك مما يضعفه ويوهنه, بل يزيله وينقله, ولا عذر لك عند الله, ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن, وان ابتليت بخطأ, وافرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة, فان في الوكزة فما فوقها مقتلةً, فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم”.
ن¯َذْكُرُ هذا البعضَ مما اوصى به الامام علي, لنُذَكِّر النظام السوري وداعِمَيْه, اي ايران و”حزب الله”, بان اي نظام يذهب بعيدا في اعتماد الظلم والقتل سببا لبقاء السلطة والحكم, فانما يفعل خلافَ ذلك تماما, اذ انه يعجل في سقوطه والرحيل -“يزيلهُ وينقُله” -, سقوطٌ ورحيلٌ لا “تؤخره تضخم الذات الحربية, ولا حتى مساعدة عمائم تقبع تحتها تبريرات ايديولوجية”, او عمائم تستعمل ظلما الامام علي (عليه السلام) شماعةً تعلق عليها خطاياها والمزالق.

في ما يتعلق بالبحرين, ما رأيكم بما حصل من مظاهرات ومن ثم دخول درع الجزيرة وصولا الى الحوار وانسحاب جمعية الوفاق منه?

في ما خص الوضع في البحرين, لابد من الاشارة بداية الى احقية بعض المطالب التي ذهب اليها المعترضون الذين يكونون الاجتماع البحريني, اي السنة والشعية. طبعا, هذه المطالب المحقة, كانت محل اعتراف الدولة البحرينية التي دعت الى الحوار كآلية يتم من خلالها التوصل الى حل شامل ومتكامل. الا انَّ بعض المتطرفين في المعارضة استطاعوا خطف الناس باتجاه تصعيد اللهجة والموقف والتحرك والمطالب, فما كان من هذا التحرك الا ان فقد غطاءه الوطني الجامع, اي, بمعنى اخر, فقد هذا التحرك اجماع القوى السياسية المعترضة, وبالتالي فقد مكونا مذهبيا اساسيا, الذي في بلد مختلط كالبحرين, يشكل اهمية كبرى في بلورة وشرعنة اي مشروع اعتراض كان, سواء كان مشروع اعتراض سني ام شيعي. على كل حال, فقدان الاجماع هذا كان يوجب اعادة النظر في شكل التحرك وسقفه, وذلك لوجود عقدٍ اجتماعيٍ قائمٍ بين مواطنين يحدث انهم ينتمون الى مذهبين مختلفين. الا ان الوهم بوجود فائض قوة لدى بعض القوى السياسية البحرينية الذي يحدث ايضا انها تتحدث باسم الشيعة, معطوفا على تحريض النظام الايراني و”حزب الله”, دفع هذه القوى السياسية الى الوقوع في خطيئة كبرى جعلت من المطالب المحقة تحت سقف الاجماع الوطني, مطالب مذهبية فئوية ضيقة لا هدف منها, بحسب ما ظهر لاحقا, الا قلب نظام الحكم واستلام السلطة. وهنا يأتي السؤال : ما مصلحة القوى التي تدعي تمثيل الشيعة, في الذهاب باتجاه المطالبة باسقاط نظام الحكم, والضرب بعرض الحائط مكونا اسياسيا سنيا يرغب في بقاء النظام الحاكم نظاما حاكما? ثم, اليس النوع هذا من المطالب هو خروج على الاجماع ومخالفة صريحة للعقد الاجتماعي, وبالتالي فانهم مخالفتهم للعقد والاجماع سيعود بالمكروه عليهم وعلى شركائهم? ثم, الم تقرأ هذه القوى قول امام المذهب الشيعي الامام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي قال : ” لا يخرج الخارج منا اهل البيت الا واصطلمته البلية واخترمته المنية وكان خروجه زيادة في مكروهنا ومكروه شيعتنا “, وبالتالي, الم تفهم هذه القوى من هذا القول, بان الامام الصادق (عليه السلام) يقصد منه بان الخروج اذا كان مؤداه تعطيل النظام العام فهو مرفوض وباطل? ثم, الا تعرف هذه القوى بان تعطيل النظام العام يؤدي الى الانقسام, والانقسام يؤدي الى الصراع, والصراع يؤدي الى النزاع “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم”, والنزاع يؤدي حكما الى سفك الدم, وسفك الدم حرام, وعليه, فان كل ما يؤدي الى سفك الدم هو حرام عملا بالقاعدة الواضحة التي تقول بان مقدمة الحرام حرام? ثم, ايضا, اين المصلحة في ان يقدم المعترضون انفسهم على انهم شيعة, وبالتالي ان يطلبوا حلا للمشكلات من خلال شيعيتهم, وان يذهب بعضهم الى حد المطالبة بانشاء جمهورية اسلامية في البحرين? وثم, ايضا وايضا, اين المصلحة في ان تبقى بعض القوى السياسية التي تدعي تمثيل الشيعة, راهنة نفسها وسياستها وتحركاتها لتوقيت واجندة النظام الايراني, وبالتالي راهنة مصير الشيعة لذات الاجندة والتوقيت? هذا, حقيقة, فخ كبير وقعت فيه هذه القوى, وهي تتحمل مجتمعة مع ايران و”حزب الله” مسؤولية تقديم الشيعة وتظهيرهم بغير صورتهم وخلفيتهم الوطنية واعطائهم هويات مذهبية لا تنسجم وانتمائهم الى اوطانهم. ان هذه القوى عليها العودة الى التعقل, اي الى اعتماد الحوار لغة وسبيلا لحل مشكلاتها وتحقيق مطالبها, ذلك ان الحوار يبقى, ولو لم يكن موضوعيا بصورة مطلقة, يبقى الطريق الانسب والاسلم, والا, فان البقاء على الاسلوب ذاته من العناد والمكابرة, هو ليس الا فتَّاح شهية دائمة للانقسام, ووصفة لمزيد من التباعد والشرذمة والنزاع.

السابق
تطورات سوريا وانعكاساتها على لبنان
التالي
لبنان.. غياب مؤقت