50 سنة على رحيله، همنغواي: الكتابة عزلتني

في تموز من هذه السنة حلت الذكرى الخمسين لانتحار الروائي الكبير ارنست همنغواي. وبالمناسبة لم نجد للاحتفاء بهمنغواي الذي عاش فترة طويلة في كوبا والذي نال بولتيزر ونوبل للآداب من استعادة هذه المقابلة التي أجراها معه جورج بليمتون حول فن السرد الروائي والتي نشرت في العدد 21، ربيع عام 1958، في مجلة "باريس ريفيو" الأميركية.
لا بد من الإشارة أولاً الى أن همنغواي اعتاد الكتابة في غرفة النوم الخاصة به في منزله بضاحية هافانا سان فرانسيسكو دي باولا. ولديه بالطبع غرفة خاصة للكتابة لكنه لا يقصدها إلا متى أجبرته "الشخصيات" التي في روايته على الصعود الى الغرفة التي تقع في برج مربع من الجانب الجنوب الغربي للمنزل. (وبما أن المقابلة طويلة جداً رأينا التركيز على مفاصلها الأساسية المفيدة في الإضاءة على عملية الإبداع لدى همنغواي).
[ هل بالإمكان أن تذكر لنا شيئاً عن عملية الكتابة لديك؟ متى تكتب. هل تتبع جدولاً صارماً؟
– حين أعمل على كتاب أو قصة أزاول الكتابة صباحاً بعد بشائر الأشعة الأولى. ليس ثمة ما يزعجك حينها والجو إما بارد أو جيد وتأتي الى عملك فتشعر بالدفئ مع بدء الكتابة. تقرأ ما تكون قد كتبت وبما أنك تتوقف حين تدرك ما الذي سيحدث تالياً في مجرى الأحداث، تسترسل من هناك في اليوم التالي… تبدأ في السادسة صباحاً مثلاً وقد تستمر حتى الظهر أو قبله. حين تتوقف تكون قد غدوت خاوياً، لكن ليس خاوياً تماماً بل تبدأ بالملء أو التعبئة من جديد مثلما يحدث عندما تعاشر شخصاً تحبه… ما تجده صعباً هو الانتظار حتى اليوم التالي للمتابعة من جديد.
[ هل تقوم بإعادة الكتابة خلال قراءتك حتى المكان الذي توقفت عنده في اليوم السابق؟ أم أن ذلك يحدث لاحقاً، مع انتهاء كامل العمل؟
– دائماً أعيد الكتابة كل يوم حتى النقطة التي توقفت عندها حين أنتهي من ذلك، أتابع الكتابة. تحظى بفرصة أخرى للتقويم وإعادة الكتابة عندما يقوم أحد بالطباعة لك، وترى النص نظيفاً. الفرصة الأخيرة هي خلال تصحيح التجارب الطباعية.
[ ما عدد مرات إعادة الكتابة لديك؟
– الأمر متفاوت. كتبت نهاية "وداعاً للسلاح"، وبالتحديد آخر صفحة، 39 مرة قبل أن أرضى عنها.
[ هل كان ثمة مشكلة تقنية في هذا الموضوع. ما الذي أعاقك؟
– العثور على الكلمات الصحيحة وجعلها تتآلف.
[ هل بمقدورك تذكر لحظة ما قررت فيها أن تصبح كاتباً؟
– لا، لطالما أردت أن أصبح كاتباً.
[ ما أفضل تدريب فكري للشخص الذي يريد أن يصبح كاتباً؟
– لنقل أن عليه الانطلاق للقيام بشنق نفسه لأنه يكتشف أن الكتابة أمر صعب حتى الاستحالة. ثم يجب أن يُقطّع الى أجزاء من دون رحمة، ثم تجبره نفسه على الكتابة قدر ما يستطيع لبقية حياته. سيكون لديه على الأقل قصة الشنق للبدء بها.
[ هل تقترح العمل في الجريدة للكتّاب اليافعين؟ ما مدى المساعدة التي قدمها لك التدريب الذي نلته خلال عملك في صحيفة "كنسناس سيتي ستار"؟
– في صحيفة "الستار" كنت مجبراً على تعلم كتابة جملة إخبارية بسيطة. وهذا مفيد لكل إنسان. العمل في الصحيفة لن يؤذي الكاتب الشاب بل قد يفيده بالمقابل إذا ما ترك الصحيفة في الوقت الصحيح. ربما هذه واحدة من أتفه الكليشيهات الموجودة وأنا أعتذر على ذكرها. لكن حين تسأل شخصاً كهلاً أسئلة مستنزفة فالأرجح أن تحصل على أجوبة كهلة ومستنزفة.
[ حين تكتب، هل تجد نفسك متأثراً بما تقرأه من نتاجات لآخرين؟
– ليس منذ أن كان جويس يكتب "يوليس". تأثيره لم يكن مباشراً. لكن في تلك الأيام حين بعض الكلمات التي كنا نعرفها كان محظوراً علينا استعماله، وكان علينا المقارعة من أجل كلمة واحدة، فإن تأثير عمله (جويس) هو الذي غيّر كل شيء، وسهّل لنا تجاوز القيود بل تجاوز التقييد.
[ هل من الممكن لك تعلّم شيء بخصوص الكتابة من غيرك من الكتّاب؟ قلت لي البارحة مثلاً أن جويس لم يحتمل التحدث عن الكتابة.
– في حضرة أناس يعملون في مهنتك نفسها تميل الى الكلام بشكل طبيعي عن كتب غيرك من المؤلفين. وبمقدار ما يكون الكاتب جيداً بمقدار ما يقل حديثه عما كتب هو. كان جويس كاتباً عظيماً ولم يكن يشرح ما يقوم بكتابته سوى للمعتوهين. أما الكتّاب الآخرون الذين كان يحترمهم فكان من المفروض بهم أن يكونوا قادرين على معرفة أو إدراك ما يكتبه من خلال قراءته.
[ بدا أنك تجنّبت صحبة الكتّاب في السنوات الأخيرة، لماذا؟
– هذا أمر أكثر تعقيداً. بمقدار ما تتوغل أبعد في الكتابة بمقدار ما تغدو أكثر وحدة أو عزلة. معظم أفضل أصدقائك وأكبرهم عمراً يموتون. والبعض الآخر يبتعدون عن مكانك، فلا تعود تراهم سوى نادراً، لكنك تستمر في الكتابة ويستمر التواصل بينكم وكأنكم معاً في المقهى كما في الأيام الخوالي. تتبادل وإياهم رسائل هزلية وأحياناً مزحة بفحشها بل وغير مسؤولة، وهذه الرسائل هي تقريباً بنفس طيبة الكلام المباشر. لكنك تزداد وحدة إذ بهذه الطريقة عليك العمل، ووقت العمل يغدو أقصر مع الوقت وإذا ما أضعته تشعر أنك اقترفت خطيئة لا مغفرة لها.
[ من قد تسمي من أسلافك الأدبيين أولئك الذين أكثر ما تعلّمت منهم؟
– مارك توين، فلوبير، باخ، ستاندال، تورجينيف، تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف، أندرو مارفيل، جون دون، موباسان، كيبلنغ، كابتن ماريات، شكسبير، موزار، دانته، فيرجيل، بروغيل، باتينير، غويا، جيوتو، سيزان، فان غوغ، غوغان… يتطلب الأمر نهاراً كاملاً لتذكر الجميع… السؤال ليس بليداً بل هو جيد جداً ووقور، لذا يتطلب تفحّص الضمير الخاص بالكاتب. ذكرت الرسامين، بل وضعت بعضاً منهم في المقدمة لأنني أتعلم بالمقدار نفسه، من الرسامين كما من الكتّاب. قد تسأل كيف يحصل ذلك؟ هذا قد يتطلّب نهاراً آخر من الشرح. المفترض بي الاعتقاد أن الإنسان يتعلّم من المؤلفين الموسيقيين ويتعلّم دراسة الهارموني أو التناسق اللحني وهنا تتبدى العلاقة الجدلية.
[ هل تعيد قراءة مؤلفات الكتاب الذين ذكرت في قائمتك؟ مارك توين، على سبيل المثال؟
– عليك المكوث سنتين أو ثلاث مع توين. أتذكر ذلك جيداً. أقرأ بعضاً من أعمال شكسبير كل سنة، "الملك لير" دائماً. عمل يشجعك بل يبهجك إذا قرأته.
[ القراءة، إذن، حرفة دائمة ومتعة لنا.
– دائماً ما تراني أقرأ الكتب بمقدار ما يوجد منها. أموّن نفسي بها لأبقى دائماً مزوداً بمدد.
[ هل تقرأ مخطوطات كتب الآخرين؟
– يمكن أن تقع في إشكال من خلال فعل ذلك إلا إذا كنت تعرف المؤلف شخصياً. قبل بضع سنوات قاضاني رجل ادعى أنني أخذت "لمن تقرع الأجراس" من سيناريو فيلم غير منشور كتبه هو. قال إنه قرأ السيناريو في حفلة في هوليوود. ادعى أنني كنت هناك، أو على الأقل كان هناك أحد معنا هناك يدعى "إيرني" يصغي للقراءة، وذلك كان كافياً له ليقاضيني بمليون دولار. في الوقت نفسه قاضى هذا الرجل منتجي فيلمي "شرطة نورثوست الفرسان" و"سيسكو كيد" مدعياً أن العملين سرقا من السيناريو غير المنشور نفسه. ذهبنا الى المحكمة وربحنا الدعوى بالطبع. وقد تبيّن أن الرجل مفلس.
[ هل تعترف بوجود الرمزية في رواياتك؟
– أفترض وجود الرموز بما أن النقاد لا ينفكون عن العثور عليها. إذا كنت لا تمانع أكره الحديث عنها وكذلك أن أُسأل عنها. من غير المعتاد كتابة القصص والأعمال الروائية من دون أن يصار الى الطلب من المؤلف تفسيرها، وهذا يحرم ممتهني التفسير من إيجاد عمل. إذا تمكن خمسة أو ستة مفسرين جيدين من الاستمرار في عملهم لماذا أعمد الى التدخل معهم؟ أقوم بقراءة أي شيء أكتبه لمجرد متعة قراءته. ما تجده غير ذلك هو مقياس ما جلبته أنت الى القراءة…
[ الأسئلة التي تستفهم عن الصنعة الروائية ومميزات طريقة الكتابة مزعجة بالواقع.
– السؤال المعقول ليس للمسرة ولا للإزعاج. لم أغير رأيي بأنه سيئ جداً للكاتب التحدث عما يكتب. إنه يكتب لكي يُقرأ بالعين وليس من الضروري أن يكون هناك توضيحات أو أبحاث. يمكنك أن تكون على يقين بوجود أكثر بكثير مما قد يُقرأ في أي قراءة أولى، وبتحقيق ذلك لا يعود من واجب الكاتب الشرح أو إجراء جولات إرشادية عبر الأماكن الأكثر صعوبة من عمله.
[ ضمن السياق نفسه يُذكر أنك حذرت أنه خطير بالنسبة للكاتب التحدث عن العمل الذي هو على درب الإنجاز، بمعنى لم يُنجز بعد، أي أنه قد "يعلن مضمونه صريحاً". لماذا هذه الخشية؟ أسأل ذلك لوجود العديد من الكتاب مثل توين، دايلر، ثيربر، ستيفنز ممن يردون الى البال والذين يبدو أنهم صقلوا مادتهم الكتابية من خلال تفحصها لدى المستمعين.
– لا يمكنني الاعتقاد أن مارك توين قد تفحص "عمله "هاكلبيري فن" من خلال المستمعين. إذا ما فعل ذلك الأرجح سيجبرونه على اقتطاع أشياء جيدة وإضافة أجزاء سيئة. من جهته فإن دايلد كان حسب الذين يعرفونه متحدثاً بارعاً أكثر منه كاتباً بارعاً. بدوره فإن ستيفنر تكلم أفضل مما كتب.. إذا كان ثيربر يمكنه التحدث كما يكتب فإنه يشكل واحداً من أعظم المتحدثين وأقلهم إثارة للملل.
[ كم مقدار اكتمال مفهوم القصة القصيرة في رأيك؟ هل إن الموضوع أو الحبكة، أو الشخصية تتغير مع صيرورة كتابتك للقصة؟
– احياناً تكون ملماً بالقصة. أحياناً تضعها مع تقدم السرد ولا تكون تدري أساساً الى ماذا سيؤول العمل، كل شيء يتغير مع تحرك العمل. هذا ما يصنع الحركة التي بدورها تصنع القصة. أحياناً تكون الحركة بطيئة جداً بحيث تبدو أنها لا تتحرك لكن ثمة دائماً تغير ودائماً حركة.
[ هل الأمر اياه مع الرواية أم أنك ترسم كامل الخطة قبل أن تبدأ ومن تم تتمسك بها بشكل صارم؟
– "لمن تقرع الأجراس" شكلت لي معضلة كان علي حلها يوماً بيوم. كنت أعلم ما الذي كان سيحدث مبدئياً. لكني اخترعت ما سيحدث يومياً خلال كتابتي المتتالية.
[ هل تعتقد نفسك في تنافس مع الكتاب الآخرين؟
– أبداً، اعتدت محاولة الكتابة أفضل من بعض الكتاب الراحلين الذين كنت متأكداً من قيمتهم، وحتى الآن حاولت ببساطة ولوقت طويل كتابة أفضل ما بمقدوري، أحياناً يحالفني حظ كبير وأكتب أفضل مما أستطيع.
[ هل تعتقد أن طاقة بل مقدرة الكاتب تتناقص مع تقدمه في العمر، في عمل "تلال افريقيا الخضراء" ذكرت أن الكتاب الأميركيين يتحولون عند عمر معين الى عجائز هاباردز.
– لست ملماً جداً بذلك. على الأشخاص الذين يعملون ما يفعلون الاستمرار بذلك طالما بقيت رؤوسهم فوق أكتافهم في الكتاب الذي ذكرته، إذا ما عدت اليه، ترى أنني كنت أتحدث ربما عالياً عن الأدب الأميركي مع شخصية اوسترالية أجبرتني على الحديث في شأن معين في حين أردت فعل شيء آخر. كتبت سجلاً دقيقا للمحادثة. ليس المطلوب بيانات كاملة طبق الأصل، نسبة معقولة من حيثيات الأحاديث تفي بالغرض.
[ لم نناقش شخصيات أعمالك. هل تلك الشخصيات مأخوذة دون استثناء من الحياة؟
– بالطبع ليست كذلك. البعض يأتي من الحياة. غالباً ما تبتكر شخصيات من معرفتك بالناس وتفهمهم وخبرتك معهم.
[ هل يمكنك قول شيء عن عملية نقل شخصية من مقالع الحياة الى شخصية متخيلة تخص الرواية المركبة من الخيال؟
– إذا ما قمت بشرح كيفية فعل ذلك، فذلك سيكون بمثابة دليل للمحامين المشهرين بالغير.
[ هل تقيم تمييزاً، كما يفعل إي.ام. فورستر، بين الشخصية المسطحة والشخصية الكاملة الأبعاد؟
– إذا ما قمت بوصف أحدهم، فذلك تسطيح، كما هي الصورة الفوتوغرافية، ومن وجهة نظري فإنه شيء قاتل. أما إذا قمت بتوليده مما تعرفه، حينها تكون حاضرة كل الأبعاد.
[ أي من شخصياتك التي تتذكرها تتطلع اليها بمحبة زائدة؟
– هذا يرتب علي ذكر قائمة طويلة.
[ إذاً، أنت تستمتع بإعادة قراءة كتبك من دون أن تشعر بأن ثمة تغييرات تود إجراءها؟
– أقرأها أحياناً لتبهجني حين يكون من الصعب علي الكتابة وعندها أتذكر أنه كان من الصعب دائماً الكتابة وأحياناً كانت الكتابة أشبه بمستحيل.
[ هل أستطيع السؤال الى أي حد تعتقد أن الكاتب عليه أن يهتم بالمشاكل الاجتماعية السياسية لزمنه؟
– لكل شخص ضميره، ويجب ألا يكون هناك قواعد حول كيفية عمل الضمير. كل ما يمكن التأكد منه حول كاتب سياسي التفكير أنه إذا أراد لعمله الاستمرار عليه إسقاط الجوانب السياسية منه حين تقرأه. العديد ممن يسمون أنفسهم كتاباً أصحاب ميول سياسية معينة غالباً ما يغيرون توجهاتهم هذه. هذا أمر مثير لهم ولعمليات المراجعة النقدية لتوجههم السياسي. ويكون عليهم أحياناً إعادة كتابة وجهات نظرهم.. وبأسرع ما يكون. ربما يمكن احترام ذاك كشكل من أشكال ملاحقة السعادة.
[ هل تقول إن ثمة نية تعليمية داخل عملك؟
– التعليمية كلمة أسيء استخدامها كما أنها شوهت "موت في بعد الظهر" هو عمل ينطوي على بعد إرشادي.
[ قيل إن الكاتب يتعامل مع فكرة أو اثنتين فقط خلال عمله. هل تقول إن عملك يعكس فكرة أو اثنتين؟
– من الذي قال ذلك؟ هذا تبسيط مفرط. الرجل الذي قال ذلك يملك على الأرجح فكرة أو اثنتين.
[ ككاتب خلاق، أو مبدع ماذا تعتقد في وظيفة الفن؟ لماذا إعطاء صورة في الحقيقة بدل الحقيقة ذاتها؟
– لماذا الحيرة أو التيه بفعل ذلك؟ من الأشياء التي حصلت ومن الأشياء المتواجدة كما هي، ومن كل الأشياء التي تعرفها والتي لا تعرفها، تولّد شيئاً عبر اختراعك ليس بالصورة عن الحقيقة وإنما شيء جديد بالكامل أكثر واقعية وصدقاً من أي شيء واقعي، وتولده حياً وإذا ما ولدته بشكل جيد، فإنك تكسبه الخلود. لهذا السبب وحده تكتب وليس لأي سبب آخر تعرفه. ولكن ماذا عن كل الأسباب التي لا يعرفها أحد؟

السابق
القيادة الفلسطينية والتفكير باستحقاقات ما بعد أيلول
التالي
اين الشبه بين شباب الإخوان المسلمين وشباب أيار 68 الفرنسي