“الفيزا” ترفرف وسط العلم اللبناني

 اختر لنفسك بلداً آخر لتعيش فيه، وعندما تقرر، توجّه بثقة لبنانيةٍ لا يعلو عليها قانون إلى سفارة دولة أحلامك وعشّ تجربة مرارة أوراقٍ تحميهم منك ومن خطر بقائك في ربوعهم عبئا ثقيلا على كاهل الدولة. يزنّر السفارة من الخارج خطّ طويل من المنتظرين، بين أيديهم "دستة" أوراقٍ من سمك أحلامهم وطموحاتهم المكبوتة في زمن القحط المعيشي.
امرأة طاعنة في السن، مثلها مثل الشباب المنتظر، ربما هدف زيارتها للدولة "العظيمة" يختلف عنهم، لأن شبابها سبقوها إلى هناك وهي ذاهبة لكي تخطف من وقتهم الممتلئ عملاً بضعة أيام تستفيد منها برؤية من ربتّهم لسنين طويلة. أما الشباب المنتظر في الصف، فيعزّي نفسه بالقاعدة العادلة 50% و50%، أي أن نسبة حصوله على الفيزا كبقية الزملاء في الصف هي احتمال النصف.
تحت شمس الصيف ينتظرون، منهم من يتحدث مع غيره لتمرير الوقت بأسرع ما يمكن، ومنهم من يتفقّد الأوراق للمرة المليون ربما، كي لا يكون نسيانه لورقة مهمة سبباً لرفض طلب التأشيرة. الأجهزة الخلوية ممنوعة، كذلك التذاكي على موظف السفارة.
فلمَ كل هذا العناء؟ لماذا يقدم شباب لبنان على طلب الفيزا؟ أيّ بلاد يفضلون؟ وما هي المصاعب التي يواجهونها في طلب السفر..؟ أسئلة برسم شباب لبنان، البضائع الفكرية التي تصدّر إلى الكون كلّه.
أحمد البالغ من العمر 25 سنة، يحلم بانتماء وطني آخر، غير ذلك اللبناني المجحف بحقه، حسب تعبيره. فلبنان لم يقدّم شيئا للشاب الذي تخرّج بامتياز واستحصل على دبلوم دراسات عليا. كل ما أمنّه له وظيفة بمعاش يعتبر بأن الشهر يتألف من 15 يوما لا ثلاثين. البلد الذي يطمح بالسفر إليه هو الولايات المتحدة الأميركية، فهو بلد الفرص واحترام الإنسان كما يقول. ولاختياره سبب آخر، فشقيقته تعيش هناك منذ بضع سنين.
يصف أحمد عملية الحصول على الفيزا بلعبة الميسر. فإما أن تحصل عليها بضربة حظ وإما أن تحطم آمالك نهائيا. ففي حال تم رفض الطلب المقدم، تسجّل عليك لسنين طويلة بأنك مرفوض، "وما تفكر ترجع يا شاطر".
قام أحمد بجميع الأبحاث الضرورية للاستفسار عن كيفية الحصول على الفيزا. لكن جميع الحالات لا توفّر له أية فرصة للسفر. فإما أن تطلب من قبل شركة هناك عن طريق رسالة دعوة موجّهة إليك، وهو أمر أشبه بالمستحيل في بلد يعاني أزمة وظائف في هذه الأيام، وإما أن تسافر لأسباب طبيّة عبر تقديم ملفات طبية من لبنان ومن مصدر طبيّ أميركي، وهو بصحة جيدة و"الحمد لله"، أو أن تسافر للسياحة، ويلزمك لهكذا طلب مبالغ مادية خيالية من حجوزات في الفنادق وبطاقات ائتمان، وكفالة مصرفية، هذا غير الأوراق الثبوتية الأخرى من ورقة عمل وأملاك في لبنان تجبرك على العودة إليه بعد انتهاء الزيارة، وأحمد لا يمتلك إلا الأحلام.
ينتقل أحمد لنوع مختلف من الفيزا، وهو من النوع الدراسي. يتحقق ذلك عبر تقدّمه بطلب انتساب إلى جامعة داخل الولايات المتحدة الأميركية، وبعد أن يتمّ قبوله وفقا للشروط يتقدّم مباشرة بطلب الفيزا. إلا أن أقساط الجامعات هناك تعتبر مخيفة، حتى على الأميركيين أنفسهم، فكيف على لبناني يعيش في وطن من الدرجة العاشرة، حسب تعبيره. أما الطلب الأخير للفيزا فيأتي من نوع زيارة عائلية، وفق رسالة دعوة من قبل أحد الأقرباء، وفي هذه الحالة، شقيقته التي تعيش هناك هي أمله الوحيد. إنما فرصة إعطاء فيزا زيارة عائلية لشاب في أول عمره وبطموحات كبيرة تعدّ من عاشر المستحيلات، ولكنه سيجرّب حظه ويلعب لعبة القمار هذه، علّه يسافر إلى بلاد العم السام.
لجوليا وجهة أخرى على طائرة الأحلام، ففرنسا هيا بلدها الثاني كما تعتبر، فهي تربّت وتعلّمت في المؤسسات التعليمية الفرنسية، من المدرسة والجامعة، إلى المعهد الثقافي وغيره. وهي تقدّمت بالفعل بطلب تأشيرة دخول وقد حصلت عليها.
لا تعرف جوليا أحدا هناك، إنما هي ذاهبة لتكمل دراسة الماجستير في إحدى الجامعات الفرنسية. ولم تكن الفيزا صعبة عليها أبداً فهي تقدّمت بها عبر جامعتها في لبنان، والتي تشارك جامعة في فرنسا بنوع من التوأمة الأكاديمية. صحيح بأن "فيزتها" تسمح لها بالبقاء داخل الأراضي الفرنسية بهدف الدراسة فقط، ولا تعتبر فيزا إقامة وعمل، إنما سوف تقوم بالمستحيل عندما تنتهي من دراستها لكي تبقى هناك، عبر تقديمها لطلب عمل أو زواجها من شخص يحمل الجنسية الفرنسية أو غيرها من الجنسيات "المحترمة"، حسب تصنيفها. "لقد انتظرت طويلا، وتكلّفت كثيرا، لكن الفيزا "محرزة" وهي باب خلاص لي"، بهذه العبارة تصف جوليا تجربتها مع الختم الذي نالته على جواز السفر.
عمر يختلف وضعه قليلا، فأحلامه تتّجه أنظارها صوب قارة أخرى أبعد. استراليا، هناك حيث الأهل والأصحاب والمنطقة كلها. فقرية عمر الشمالية اللبنانية، هاجرت بأكثرها إلى هناك. آخرهم كان شقيقه الذي حصل على فيزا عمل هناك وهو الآن بصدد ترتيب عقد عمل له لكي "يسحبه" إلى أستراليا.
حاول عمر كل الطرق من قبل للحصول على فيزا، كان آخرها عبر إحدى المكاتب التي تعدُ الناس بالاستحصال على تأشيرة الأحلام، وبعد أن دفع كل ما يملك للمكتب، جاء الرفض مدوّياً على جواز سفره كما على نفسيته. إنما الآن فالوضع مختلف، فالسفر عن طريق عقد عمل هو الأنسب والأضمن.
هناك سيشتري بيت بعد سنة من عمله، وليس بعد 30 سنة كالحال في لبنان، بعد أن يكون قد خسر صحته وجميع طموحاته التي ستتكسر على صخور الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، كما يقول.
أما نيكولا فاختصر جميع الأوراق، صفوف الانتظار والإذلال على أبواب السفارات، هو يحاول أن يتزوّج من حاملة جواز أجنبي، فيحصل في الوقت عينه على الزواج والجواز. كلمتان تختصران آماله في الحياة. هو الذي لم يعد يكترث للحب والعواطف، بعد أن ذاق منهما المرّ، كما وأنه لا يؤمن بالبقاء في لبنان بعد أن ذاق منه الأمرّ. قرر للسبب هذا بأن يتخلى عن الاثنين عبر طريق زواج المصلحة. هكذا يحصل على الفيزا رغماً عن أنف السفارات وموظفيها.
شباب العالم تحلم وتطمح في العمل، الشهرة، العائلة، الاستقرار، السفر للسياحة والمتعة الحياتية، أما شباب لبنان ففي صفوف طويلة ينتظرون "ختما" على جواز سفرهم علهم يختمون المعاناة ويصبحون من أصحاب "الفيزا". 

السابق
المفتي مكي:الطائفية سلاح يغتال الأوطان
التالي
بنت جبيل تكرّم مغتربيها