هل علينا أن ننزل عن الشجرة قبل أيلول ؟

هل صعدت القيادة الفلسطينية حقا شجرة عالية لا تعرف كيف تنزل عنها ؟
هو سؤال الحوارات الفلسطينية اليوم الذي يتردّد بين المثقفين والسياسيين، بل ومعظم القطاعات الشعبية التي تهتم بالشأن الوطني العام، وتجتهد للبحث عن حلول حقيقية لمأزق الحالة الفلسطينية الراهنة.
سنذهب الى الأمم المتحدة في أيلول القادم لنعلن من هناك دولة فلسطين المستقلة، ونأخذ الإعتراف الدولي بها.
هكذا قالت القيادة الفلسطينية على السنة رئيسها وأعضائها، وعبر بياناتها الرسمية، بل إن هذه النيّة كانت ولا تزال عنوان التحركات العربية والدولية، وموضوع كل اللقاءات التي أجرتها هذه القيادة مع الزعماء العرب، كما مع رؤساء الدول الأجنبية وبالذات دول أوروبا.
ما يدعونا لإثارة سؤال الشجرة العالية اليوم هو ما بدأ يعلو من أصوات "تتساءل" عن ذلك، بل وتطرح أهمية أن تجد القيادة مبكرا حلولا للخروج من المأزق الذي حشرت نفسها فيه. يقول كثر من أصحاب هذا الرأي أن الإعلان عن أيلول القادم كموعد للدولة المستقلة، وأيضا الأمم المتحدة كمكان، هو بمثابة استحقاق ألزمت القيادة نفسها به دون أن تتوافر له الشروط الموضوعية، لا بل في مواجهة شروط موضوعية معاكسة تمثلها إرادات دولية كبرى، بعضها صريح في رفضه، ومعظمها يغلّف الرفض بإسداء النصح للقيادة الفلسطينية بالتريث، ومحاولة البحث عن بدائل واقعية عن هذا الخيار.
هو مأزق بكل المعاني ووفق كافة المقاييس، وهو كذلك لسبب بديهي وبالغ البساطة : البحث على مدار عقدين مريرين عن تحقيق الدولة الفلسطينية عبر التسوية الأميركية لا يسمح بالتأكيد اليوم بالبحث عن تحقيقها بمعزل عن السياسة الأميركية، فكيف هو الحال إذا كان بالتضاد معها ؟
هل يعني هذا الكف عن المحاولة، والإسراع لمساعدة الرئيس أبو مازن وأعضاء القيادة في النزول عن الشجرة، وطي صفحة الإعلان في أيلول ؟
أعتقد أننا هنا إزاء ذهنيتين سياسيتين مختلفتين، فالعمل من أجل إقامة الدولة المستقلة هو أولا ودائما هدف وطني فلسطيني عام، نفترض أنه يلقى قبول مختلف القوى الوطنية. ولكننا بعد هذا الإتفاق نختلف بالقطع في كيفيات تحقيقه والوصول بالقضية الوطنية إلى بر آمن. فلا الحالة الفلسطينية ولا الدولية تسمح اليوم بمغامرات في المجهول على هذا النحو الذي نشهده، ونعتقد أكثر من ذلك أن انسداد أفق المفاوضات مع إسرائيل، لا يعني بالضرورة انتهاج سياسات من هذا النوع المغامر وغير المحسوب.
مع ذلك أؤمن أن علينا حقا أن نمضي في طريق الأمم المتحدة لإعلان الدولة من هناك، وفي الموعد ذاته في أيلول. ليس هذا نقيضا للتساؤلات السابقة، ولكنه بالتأكيد نقيض للمنطلقات التي حكمت حتى اللحظة تحرُك القيادة ، والتي لا تزال في تقديرنا ضربا من العبث والمغامرات غير المحسوبة التي لا توصل إلا للمجهول.
أعتقد أن شيئا مختلفا لا بد أن يقع في حياتنا السياسية كي يصبح من الواقعي والممكن حقا إستشراف أفق نجاح دولي كبير كذلك الذي يعنيه اعتراف العالم بدولة فلسطينية مستقلة. يبدأ هذا بقرار عربي واحد موحد يتوجه للعالم في صورة جدّية، وعبر تحرك حقيقي، ولا نظن أن شيئا كهذا ممكن أصلا قبل توفيره فلسطينيا، أي قبل أن يكون برنامجا للقوى الوطنية الفلسطينية مجتمعة وموحدة، كي يخاطب العالم بلغة واحدة، تطلق شعارا واحدا ومطلبا واحدا.
ليس في أفق النجاح، أو حتى مقاربته، أن تتحقق أهداف سياسية كبرى في قضية فلسطين خارج منطق العصر وقوانينه نعني هنا إعادة النظر جدّيا في وسائلنا وأساليب عملنا، فعالم اليوم يقوم على توازن المصالح وليس على المثل الأخلاقية والقيم العليا، ما يعني ضرورة وضع قضايانا السياسية الكبرى ومنها قضية فلسطين في إطار مصالحنا وتشابكها مع مصالح الآخرين، فأن يكون السلام واستقلال الفلسطينيين في دولة مسألة تهمُنا، لا يعني بالتأكيد أن تهمّ الآخرين، ولكنه يعني أنها ترتبط عندنا بجملة من المصالح التي يمكن أن تؤسس أرضا مشتركة مع الآخرين. لا يعفينا ذلك من أن نلتفت بجدّية لاستنهاض واقع فلسطيني بات منذ زمن طويل يعاني الترهل، والتسيُب وانفلات الزمام، وإعادته الى جادة الصواب.
في طريق تحقيق الإستقلال ومن أجله، ليس من المنطقي أو المعقول بطء العمل لاستعادة الوحدة السياسية والجغرافية بين الضفة الغربية وقطاع غزة : هنا بالذات نعني وحدة المؤسسات السياسية كما التنفيذية العامة، ولكننا نعني أيضا وبالأهمية ذاتها وحدة التوجه من خلال برنامج سياسي واحد لا يلغي الإختلاف والتعدُد بل يقوم على فهم حيوي للإختلاف، أي على الانطلاق من المشترك وتوظيفه لخدمة المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني في معركته من أجل تحقيق أهدافه.
لقد باتت الحالة الفلسطينية العامة تستدعي وقفة جدّية أمام جملة من أسباب الضعف ومنها الفساد شبه الشامل الذي ينخر المؤسسات ويحيلها الى خراب. ذلك حال لا يحقق هدفا، ولا يمكن الركون إليه لإنجاز شيء. ومن يراقب الحياة السياسية الفلسطينية خلال عقدين مريرين مضيا، يدرك أهمية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة وفي أسرع وقت، والإنطلاق منها الى استعادة حيوية اجتماعية باتت مفقودة إلى حد بعيد. وهنا أيضا لا يقف الكلام عند الإنتخابات إلا كمحطة ضرورية ومفصلية إذ لا بد من الإلتفات جديا لواقع المنظمات الشعبية والنقابات المهنية التي باتت هياكل تنظيمية فارغة من المضمون، والتي تحتاج الى إعادة بناء على أسس ديمقراطية سليمة، وفي الوقت ذاته رعاية مؤسسات المجتمع المدني، والكف عن التدخل الفظ في شؤونها على النحو الذي نشهده والذي يعرفه الجميع.
ليس أيلول القادم موعدا مقدسا بالتأكيد، فالمقدس هو أولا وقبل كلّ شيء صيانة الحالة الوطنية وتأهيلها لتحقيق الإنجازات.
ذلك ليس مجرّد كلام يقال في الخطب السياسية والمهرجانات، بل برنامج عمل ينطلق من الإمكانات الحقيقية وليس من أوهام هنا أو هناك ، والنجاح هو بالذات في مراكمة الإنجازات الصغيرة وتمكينها من أن تتحول الى أداة تغيير كبرى جدّية وحقيقية.
فليأت أيلول، ولكن ونحن على سكة أخرى لا تشبه هذا الوهم الذي يسيطر على حياتنا السياسية، ويأخذ بزمام مؤسساتنا الرسمية وشبه الرسمية في طريق المجهول.

السابق
الفلسطينيون بين أزمتي المفاوضة والمقاومة
التالي
الدين والحياة.. والمرأة