نحو تغيير معنى الثورة والمقاومة

بدايات الثورة العربية، في تونس ومصر، لم تكن ايذانا بعصر سياسي جديد فقط، اهتزّت معه أبنية وقادة وهياكل… بل بعثت أيضا أولى المؤشرات في ضرب تقليد سياسي قديم يقوم على أولوية واحدة لا غير: تعبئة جماهيرية، للنضال والتظاهر والاعتصام و"القتال" (نظريا غالباً) من اجل "مقاومة" العدوين "الخارجيين" الامبريالي والصهيوني. أولوية مطلقة على ما عداها من قضايا "داخلية ثانوية"، من نوع بناء دولة قانون، أو مؤسسات، أو تداول للسلطة، خصوصا تداول السلطة.
هي أولوية مطلقة الى حدّ ان الاعلان عن العداوة الخارجية هذه كانت شرطا من شروط الدخول الى نادي الوطنيين الشرفاء، شهادة حسن سلوك سياسي، أو ممراً إجبارياً، أو حتى مجرّد حجاب سميك يغطي أشياء أخرى، يصعب الاعلان عنها.
هي "أولى المؤشرات" قلنا، اذ ان النظامين في تونس ومصر ليسا من المعروفين بـ"المقاومة" و"الممانعة"؛ ولم تكن في جعبتهما "الفكرية" ما يجدر ان يكابرا به في وجه الجماهير التي نزلت تطالب بسقوطهما، اللهم الا تلك الاتهامات المهلهلة من نوع "ارهاب" أو "مخربين" أو"عابثين بأمن البلاد"…
وكان لهذا السقوط السريع صدى مرحبا أشدّ الترحيب لدى الانظمة والاحزاب صاحبة مشروع "المقاومة". اعتبرته سقوطا لأنظمة الرجعية والخذلان والتعامل مع العدوين الخارجيين، وربحا صافياً لمعسكرها. فاطمأنت لهذا "النصر التاريخي" الإضافي. وكان من ذلك الكلمة الواثقة التي قال فيها بشار الأسد الى احدى الصحف الغربية من ان نظامه لا يصيبه ما اصاب النظامين التونسي والمصري، لأنه نظام "ممانعة".
لكن الثورة أتت، وبجبروت أسطوري، وهي لا تريد غير سقوط هذا النظام الممانع بالذات، واستعادة كرامة وحقوق سلبها على امتداد اربعة عقود. فكان التحدّي الأقوى للاستقرار الفكري السابق، القائم على أولوية العداوة مع الخارج.
لحماية هذا الاستقرار الفكري، كيف يردّ النظام؟ يقتل طبعا، ولكن ايضا يغرف، هو وأبواقه، من ترسانته اللغوية كل الالفاظ التي نسجها حول فكرته المحورية "المقاوِمة": من ان قادة المتظاهرين ينفذون مخططا امبرياليا صهيونيا، من انهم "متآمرون"، "طابور خامس" أو"مندسون" أو "مغفّلون"؛ ومن ان سوريا لن تركع أمام تدخلات اميركا وأوروبا واسرائيل، من ان هذه التظاهرات انما قامت لتفتيت سوريا وإقامة الشرق الاوسط الاميركي الجديد… ولا تنتهي اللائحة، ففي جعبة النظام ذخيرة فلسطين ايضا. تذكرها الآن.
كانت الخطوة العبقرية الاخرى، من ربط بين معركة النظام ضد الثوار، وبين المعركة ضد اسرائيل، وإطلاق التظاهرتين اللتين لا تبعثان على غير الأسى (في ذكرى وعد بلفور وهزيمة حزيران 1967). ثم توقفت فجأة المسرحية، بعدما تظاهر فلسطينيو سوريا ضد "فصائلهم" الموالية للنظام، والتي نظّمت هذه المهزلة المحزنة. وكانت حصيلة هذه التظاهرة الأخيرة 11 قتيلا فلسطينيا اضافيا، وربما أكثر، برصاص هذه "الفصائل"!
المسرحية توقفت، وحولت مؤيدي المقاومة والنظام السوري الى متفجعين على قضية فلسطين. "لا معنى لثورة تتجاهل قضية فلسطين"، أو "أين انتم يا أهل فلسطين؟" ودليل أصحاب هذه العناوين: "ألا يكفي ترحيب الولايات المتحدة واسرائيل، ومنذ اليوم الاول، بالانتفاضة السورية لتكون مدعاة للقلق؟" لينتهي "بئس الثورات لهذه!"…
ترافقت هذه البكائيات مع إعلان النظام اعترافه بدولة فلسطين! يا لها من خبطة! بعدما سبقتها 118 دولة، ومنها دول أوروبية…
العطب في هذه الوضعية من التفكير، هو قيامها على ركن اساسي يقول: "ان اسرائيل شرّ مطلق".
والحال ان هذا النظام الذي بنى كل استمراريته على شمولية الشرّ الاسرائيلي، وبنى مجده على تشغيل شعوب "شقيقة" اخرى بهذه الصيغة، يجد نفسه في حالة مواجهة معها، بالقدر ذاته الذي يواجه به الثوار المنتفضين: فتحت الشعارات المتولدة من اطلاقية هذا الشرّ، كانت هذه المواجهة لا تتم الا بالدبابات والرشاشات والشبيحة والاعتقالات التعسفية والتعذيب والتمثيل بالجثث والحصار والتجويع. وكان مشهد الصدور العارية والباسلة للمواطنين المعرضين لهكذا شرور يدفعنا دفعا نحو مقارنتهم بشباب الانتفاضة الفلسطينية الاولى (1987) التي اندلعت في وجه اسرائيل: شباب لا يجد ما يردّ به على الدبابات والرشاشات الموجهة ضده غير التظاهر والحجارة.
ليت النظام الممانع يتساوى مع شره المطلق، اسرائيل؛ بل يتفوق عليه وحشية وتعتيما اعلاميا، وفبركة للأكاذيب الفاضحة والساذجة.
واذا ما أردنا المزيد من التدقيق في هذه المواجهة القائمة بين النظام ودعائمه الفكرية، علينا ربما ايضا المقارنة بين أمرين آخرين: من جهة، التجنيد الاعلامي الحامي للنظام ضد اسرائيل في حربها ضد غزة في نهاية عام 2008، والتباكي على وحشية اسرائيل وعدم آدميتها واطماعها، وعلى الضحايا الفلسطينيين وخراب قطاع غزة ومحاصرته… ومن جهة اخرى، التجنيد الاعلامي لنفس النظام ضد اسرائيل والامبريالية معا، من اجل التعتيم على وحشيته ضد السوريين المتظاهرين.
ماذا نخلص من هكذا مقارنات؟
الى ان الشعار الذي يكاد يكون تأسيسياً لكل فكر المقاومة، أي شعار "اسرائيل شر مطلق"، قد اختل بدوره، وصار واضحاً ان اصحابه انفسهم تجاوزوه، وصاغوا بدباباتهم شعارا آخر: "اسرائيل شرّ نسبي". اغتصبت حقوقاً، وقتلت وعذبت وشردت وصادرت… بأقل ما يفعله النظام من قتل وتعذيب وتشريد…
الاستنتاج بأن اسرائيل، ومعها الامبريالية، شرّان نسبيان، قياسا الى شرّ سلطة مستفحلة وباطشة، سبقنا اليه المتظاهرون السوريون الذين أحرقوا صور نصر الله وخامنئي، وهتفوا ضدهما وهم مندفعون الى الشارع يصرخون ضيقهم ، لا يثنيهم لا شبيحة ولا رصاص… (فيما التظاهرات التي يرتبها النظام ترفع صور نصر الله الى جانب صور بشار الأسد).
وهم بهذا المشهد الجديد الذي أوجدوه على الساحة السورية، ضربوا القديم ووضعوا لبنات الجديد:
فهم وضعوا تناقضا حيا بين "المقاومة" وبين "الثورة": الاولى تدكّ متظاهرين عزلا بكل انواع القتل والدمار، مقابل الثانية التي تطالب بأبسط الحقوق المدنية. والمفارقة العجيبة ان هذه "المقاومة" هي ايضا ابنة "ثورة"، ولكنها ثورة شاخت مستريحة على عيوبها، فكبرت ومعها هذه العيوب؛ ومنها تحولت "مقاومتها" الى سلاح فكري واعلامي ضد الثورة، من ان سوريا تتعرض، عبر هذه الثورة، الى مؤامرة للنيل من "صمودها" و"ممانعتها". (ويكفي دليلا على قوة هذا الفرع من فروع فكرة "المقاومة" ، ان تصريحات رامي مخلوف لم تؤثر على استمرار ذيوعها).
وهم، أي الثوار السوريون، بما يقومون به، في طريقهم الى اختراع معنى جديد لكلمة "ثورة": معهم الثورة لا تكون الا ديموقراطية.
ثورة ديموقراطية؟ وضد من؟ هل كان يمكن تخيل هذا قبل سنة فقط، عندما كانت "أبدية" النظام من البديهيات؟
من الطبيعي والحالة هذه ان يكونوا قد اخترعوا، مع الثورة، معنى المقاومة: مقاومة دبابات واستخبارات نظام امني وقمعي. الصورة واللسان لا ينطقان بغير هذه المعاني.
في هذه اللجة، ليس بين اولوياتهم الاراضي المحتلة أو اسرائيل، ولكن عندما ينتصرون ويصبحون بصدد صياغة موقفهم من الاثنين، هل تكون المقاومة التي سوف يبنون هي نفسها تلك التي شبّ عليها النظام البائد؟ أم مختلفة؟

السابق
كلام لا نسمعه في بلادنا العربية
التالي
السوري يصوغ حكايته