الفلسطينيون بين أزمتي المفاوضة والمقاومة

لا شكّ أن ميل القيادة الفلسطينية للاستمرار بالعملية التفاوضية، على رغم النتائج العقيمة التي أودت إليها، طوال عقدين من الزمن، يثير كثيراً من علامات الاستغراب والاستفهام.
ويمكن تفسير ذلك بمجموعة عوامل من ضمنها ارتهان هذه القيادة لهذه العملية بالذات، وعدم امتلاكها الإمكانات المناسبة لتوليد بدائل مغايرة عنها، وهيمنة المعطيات الدولية والإقليمية والعربية التي لا تسمح أصلاً بمغادرتها. وما يجب إدراكه، أيضاً، أن هذه القيادة، بوضعيتها كسلطة، باتت معنية بتأمين الموارد اللازمة لتأمين مقومات الحياة في الإقليم الذي تديره (مع وجود نحو 180 ألفاً من الموظفين في السلكين المدني والعسكري)، وهي موارد تأتي أساساً مما يسمى "الدول المانحة"، أو "الدول الراعية لعملية السلام"؛ على ما في ذلك من تضمينات، وربما اشتراطات، سياسية لا تخفى على أحد.
مع كل ذلك ثمة عاملان آخران، على غاية في الأهمية، يعزّزان ويسهلان هيمنة الخيار التفاوضي في الساحة الفلسطينية (بغض النظر عن عدم جدواه!)؛ في ظل المعطيات السائدة.
العامل الأول، ويتمثل بغياب المجال العام السياسي والمجتمعي عن التقرير بالشؤون السياسية المصيرية، لا سيما مع تحول الحركتين الرئيستين ("فتح" و"حماس") من حركتي تحرر وطني إلى سلطتين، كل في مجاله الإقليمي.
وكما هو معلوم فإن المجال العام المجتمعي جد ضعيف وممزق ومهمّش، لا سيما أن الفلسطينيين يعيشون في ظروف قاهرة، إما تحت سلطة إسرائيل، في ظل الاحتلال والحصار والتمييز العنصري (في الضفة وغزة ومناطق 48)، أو يعيشون كتجمعات منعزلة عن بعضها، لا تتمتع بالقدرة على تقرير أوضاعها، في بلدان اللجوء والشتات.
أيضاً، فإن الكيانات السياسية الفلسطينية، على رغم تجربتها الغنية، لم تستطع التحول إلى حركة تمثيلية ومؤسسية تعبّر عن تطلعات مجمل تجمعات الفلسطينيين، وتمثّل مختلف تلاوينهم السياسية (لأسباب موضوعية وذاتية أيضاً). وكأمثلة على ذلك فإننا نلحظ غياب المجلس الوطني، وتحول المجلس المركزي إلى مجرد منبر لإعلان البيانات والقرارات، وتهمّش اللجنة التنفيذية التي باتت أقرب إلى ديكور في المشهد السياسي الفلسطيني، بعد تركّز الفاعلية السياسية في السلطة.
كما يمكن أن نلحظ ذلك في "موات" المراكز والمؤسسات والهيئات التي أسهمت في إغناء الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقتها، وأضفت الحيوية عليها، من مثل مراكز الأبحاث والتخطيط والدراسات والإعلام، وكذا المنظمات والاتحادات الشعبية، التي بالكاد ثمة من يتذكرها.
في ظل هذه الأحوال يبدو من الطبيعي أن "تتمتع" القيادة الفلسطينية بنوع من "استقلالية" عن مجالها الاجتماعي/ الشعبي (تماماً مثل غيرها من الأنظمة) في التقرير بشؤون قضية فلسطين وشعبها، خصوصاً بالنظر لهشاشة هيئاتها التشريعية، وضعف صيغتها التمثيلية، وبواقع اعتماديتها، في مواردها المالية ونفوذها السياسي، على الإطارين الدولي والإقليمي، أكثر من اعتمادها على شعبها (وهذه نقطة ضعف مزمنة فيها).
أما العامل الثاني، الذي يعزّز الخيار التفاوضي، ويسهل على القيادة السائدة الإصرار على السير في طريقها (على رغم عدم جدواه)، فيتمثل بضعف فاعلية المعارضة. والقصد هنا بالضبط عدم امتلاك المعارضة لمشروع وطني بديل مناسب، وعدم تقديمها لنفسها كنموذج مغاير في قيادة وإدارة الوضع الفلسطيني.
وفي الحقيقة فإن ما ينطبق على القيادة الرسمية، لجهة غياب مجالها العام المجتمعي والسياسي، ينطبق على المعارضة، أيضاً، التي لم تستطع بناء مؤسسات وطنية جامعة، ولا إقامة أطر تمثيلية، ولم تنتهج طريقاً أفضل في صنع القرارات، وصوغ العلاقات في الساحات النافذة فيها، فضلاً عن أنها أيضاً تتغذى على المساعدات الخارجية وعلى النفوذ السياسي المستمد من علاقاتها الإقليمية.
ومثلاً، قد لا يستطيع أحد أن يصف حركة "حماس" بالضعف، ولا بقلة الإمكانات، ولكن هذه الحركة أضعفت مكانتها بتحولها إلى سلطة في قطاع غزة، وبهيمنتها على المجال العام المجتمعي والسياسي فيه (في السياسات والسلوكيات) بصورة أحادية؛ ومن دون تمييز بين كونها حركة وطنية أو كونها حركة دينية. وفي الواقع فإن هذه الحركة لم تستطع تقديم سلطتها في غزة باعتبارها نموذجاً أفضل (من نموذج فتح في الضفة)، بدليل منازعاتها المستمرة مع ناشطي حركة الجهاد الإسلامي (وهي حركة إسلامية) وناشطي الجبهة الشعبية، علماً أن هذين التنظيمين ضد المفاوضات ومع الكفاح المسلح. كما يشهد على ذلك احتكار "حماس" إدارة قطاع غزة، وعدم أتاحتها المجال لفصائل التحالف الوطني التسع (على الأقل) مشاركتها هذه الإدارة.
أيضاً، فإذا كانت سلطة "فتح" في الضفة تعتقل وتضيق على الحريات (في الضفة) فإن سلطة حماس تقوم بكل ذلك في قطاع غزة أيضاً، وإذا كانت سلطة فتح تهيمن على القرار في الضفة من دون مشاركة حلفائها، فإن سلطة حماس في غزة تفعل الشيء ذاته!
أما إذا تحدثنا عن أوضاع الفصائل المعارضة في الخارج فيمكن ملاحظة أنها لم تبذل كل ما في جهدها للارتقاء بأوضاعها، وتدارك التآكل في بناها، وهي لم تتمكن، طوال العقود الماضية، من بناء منظمات شعبية فاعلة وجامعة (كاتحادات الطلاب والعمال والكتاب…)، ولم تبذل جهداً لإقامة مؤسسات موحدة لها في الخارج؛ هذا من دون أن نتحدث عن أن هذه الفصائل لم تعمل البتة على توحيد إطاراتها على رغم تماثل معظم الفصائل المكونة لها.
ويستنتج من كل ما تقدم بأن ما يجري في الساحة الفلسطينية إنما هو تحصيل حاصل لحال انعدام الفاعلية في المكونات السياسية، وغياب المجال المجتمعي/ الشعبي، وأفول مشروع التحرر الوطني، لدى القيادة ولدى المعارضة في آن معاً.
معنى آخر فإذا كانت القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة وفتح والسلطة) تسير نحو الخيار التفاوضي فإن الفصائل المعارضة لا تملك شيئاً تستطيع تقديمه في مواجهة هذا الخيار، لا على مستوى تفعيل دورها في الصراع ضد إسرائيل، ولا بالنسبة لتعزيز مكانتها إزاء شعبها، ولا على مستوى تقديم نموذج أفضل لإدارة أوضاع الشعب الفلسطيني.
ومثلما أن القيادة التي تنتهج خيار المفاوضة غير قادرة على فرض رؤيتها على إسرائيل في شأن التسوية، فإن المعارضة التي ناهضت المفاوضة والتسوية غير قادرة، أيضاً، على مواصلة خيارها بالمقاومة المسلحة، لا من الداخل ولا من الخارج، لا من الضفة ولا من غزة، ما يفيد بأن المشروعين المذكورين لا يمتلكان، بالدرجة نفسها، لا الإمكانات ولا القدرة على التحقق، ولو بالمعنى النسبي.
لكن ما العمل في مواجهة حال الانسداد في الأفق والضياع والتخبط هذه؟ هذه الحال تفترض من الفلسطينيين، وضع حد لانقساماتهم، والقبول بواقع التعددية والشراكة والعلاقات الديموقراطية، كما يفترض ذلك منهم التوجه نحو مراجعة أوضاعهم، وإطلاق ورشات التفكير عندهم، وتعلّم الإصغاء لبعضهم البعض، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفصائلية الضيقة، في أي محاولة جادة لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.

السابق
السوري يصوغ حكايته
التالي
هل علينا أن ننزل عن الشجرة قبل أيلول ؟