محمد علي الحوماني في النجف زائراً حَدَثٌ وحَديثٌ تاريخيّان*

 لبث الشيخ محمد علي الحوماني العاملي طالب علم ديني في النجف، نحو سنة أو سنتين، ثم ساءت صحتُه بسبب رداءة الطقس وشظف العيش، فعاد إلى وطنه جبل عامل، وزاول فيه ما يزاوله أمثاله، وكان يمارس الشعر محاولاً معالجة المشاكل المعاصرة، فلمع نجمه حتى صار يُعدُّ من شعراء العرب في حينه، ومن شعراء الجنوب البارزين بجدارة واستحقاق. وكانت مجلة العرفان الشهيرة في ذلك الوقت منبراً له، وكان صاحب العرفان يمهد له ويشجعه ويميز قصائده بالإخراج.
ثم اختاره الملك عبد الله ملك الأردن لتعليم أولاده، وبقي في الأردن شهوراً أو أكثر، وكانت ميول صاحب العرفان هاشمية، ولا نظن الحوماني يفترق عنه، ولعلّ استدعاء الملك عبد الله له رفع من مكانته. ثم انتشر اسمه في المهجر، وكان المهاجرون يتوقون إلى وجود عالم ديني شيعي بينهم، وكان العلماء يرون السفر إلى المهجر أشبه بالتعرّب بعد الهجرة. وأخيراً استدعوه، ظناً منهم أنه عالم ديني منفتح، وأنه يتلاءم مع الأجواء التي يعيشونها، ويكون وجوده بينهم ضمانة لصيانة أبنائهم وأحفادهم من الضياع، لأن كل من وُلِدَ لهم في المهجر لا يجد طريقاً للتعرف إلى لغته العربية ولا سبيل إلى معرفة دينه الإسلامي.

في المغترب
ويوجد رسالة أو أكثر موجهة من الشيخ عبد اللطيف الخشن باسم المغتربين، يشكون هذا الأمر، ويسصرخون ضمير العلماء الصالحين المصلحين، ولكن الظروف بأجمعها لم تكن تسمح بشيء من ذلك. ولما وصل إليهم استقبلوه استقبال القائد الفاتح، ثم التفوا حوله أجمع. وكأنني أتخطر أنه حدَّث: بأنه خطَب المهاجرين عند وداعهم، وحرَّضهم على العودة إلى بلادهم لإعمارها والعمل فيها، وأنه أنشدهم بقوله:
بِطْلع عا راس الجبل واشْرِفْ على الوادِي
وبْقُولْ طَابْ الهَنَا نسَّمْ هوى بلادي
ولعله أنشدهم أيضاً:
يا مْفَرْعَا بالنَّدى رُدِّي على نْهُودِك
وبْخاف مرِّ الهوى يجْرَحْ لِكْ خدُودِك
تمنِّيتْ حَالِي سوَار الماسِ بزنُودِك
ما بفَارقِكْ يا بْنَيَّا ساعة زمانيَّة
قال: فأجهشوا بالبكاء، واستخرج كل منهم منديلاً وجعل يكفكف دموعه. ثم التقينا به مرة أخرى عند آية الله الحكيم، ولم يكن ثمة غيري وغيرهما، فتحدث بإيجاز حول حاجة المهاجرين إلى الوعي الديني، وعن تقطيع أوصال المسلمين وجهل بعضهم ببعض.

حسن الأسلوب والعبارة
ثم بمناسبة ما، ذكر الشيخ محمد جواد شرّي، وقال: لا ينبغي أن يُصدق فيه ما يقال عنه، لأنه يتطلب معالي الأمور. وكانت الانطباعات عنه: أنه مترسل في حديثه، حَسَن الأسلوب، بليغ العبارة يستولي على شعور المستمع.
وفي أواخر أيام المرجع الأعظم في وقته السيد أبو الحسن الأصفهاني، كنّا عصراً في منزل العلامة الشيخ علي العسيلي العاملي، المجاور لمنزلنا، فجاءَني شخص يخبرني أن الحوماني ورد النجف، وأنه نزل ضيفاً عليَّ وهو في البيت، فاستدعيته إلى منزل الشيخ علي، وكان العامليون مجتمعين فيه بمناسبة تعزية سيد الشهداء، إلا ما شذ وهم يؤمئذ يقاربون العشرين شخصاً، وكلهم متميزون في السن والعقل والصلاح.

التوبة.. والتعقّل
فقلت لهم قبل وصوله إلينا: الحوماني جاء إلى النجف ليُعلن توبته أمام العلماء، وسيكلفني بأمر لا أستطيع أن أجيبه عليه، وبينما نحن كذلك دخل علينا، فاستقبلناه بحفاوة تليق به، ولما استقرَّ به المجلس، شرَع في الحديث عن مراحل الإنسان وتطوراته في حياته، وما يحيط بها من نقص وأغلاط، فإذا انتهى إلى دور الكمال تنبَّه إلى أغلاطه وندم على ما كان، والتجأ إلى الله سبحانه، وأصبح يسير على هدي العقل، وقد قلت عنه سابقاً: إن حديثه موجز، وأنه جذاب. واعلم أن بعض ما ننقله عنه وعن غيره يحمل صورة للقارئ عما كان، لا أنه نفس ما كان.

يوم زارنا الحوماني
ثم في أواخر النهار خرجنا نقصد منزلنا، فالتقينا قبل الدخول إليه بالشيخ قاسم محي الدين، وكأنه كان عارفاً بمجيء الحوماني، فترخص مني بصحبته إلى منزله، فبادرت بالموافقة بدون أيَّة معارضة لأمور كثيرة منها:
1 – إن بيتي لا يتسع لاستقبال أمثاله، ولعله عندما قصد الضيافة عندي كان يتخيليني ممن يستعد ويسعد بأمثال هذه الضيافة.
2 – إن أعمالي اليومية المتعلقة بالدرس والتدريس تكاد تستغرق الوقت بكامله، ولا أظنه يحصل مني على أكثر من ساعة وإن طال مكثه عندي.
3 – إن طباعي لا تنسجم مع طباع الناس الذين سيتصل بهم ويتصلون به. ذهب إلى منزل الشيخ قاسم وبقي في ضيافته نحو ثلاثة أشهر، وكان ديوان الشيخ قاسم في كل ليلة مجمعاً للشعراء والأدباء وأهل الظِّرف، وأصبحت تلك الليالي أشبه بـ"سوف عكاظ"، إلا أنها خالية من التجارة، ولا أتخطر أنني اجتمعت معهم طيلة هذه المدة أكثر من مرتين، وكنت أذهب بعد صلاة المغرب وأمكث نحو الساعة قبل تكامل الوافدين.
وكان السيد محمد جمال الهاشمي الكلبياكاني يحمل إليَّ بين حين وآخر معلومات عن تلك الندوات، وكان هو والشيخ عبد الغني الخضري في طليعة فرسانها المثابرين عليها.
والشيخ عبد الغني شاعر نجفي مُكثر، وشعره وسط، يعود نسبه لآل كاشف الغطاء، وكان جلداً صبوراً في المتناقضات التي تحتوي عليها مثل تلك الندوات، ولا أشك أن جملة من أصدقاء الحوماني ومن طلاب الشهرة والتعرُّف أقاموا له الولائم، وأنهم كانوا على العادة يجمع كل منهم مَن يمتُّ إليه.

خرج بدون "وكالة"
وبعد وصوله بمدة بسيرة اتضح أن هدف الحوماني هو الحصول على وكالة من المرجع الديني الوحيد في ذلك الوقت السيد أبو الحسن، والوكالة في عرفنا ذات أهمية تشبه صكاً بالولاية، يحمله شخص إلى منطقة معينة من قبل الخليفة.
إنها ليست سلطنة ولا سلطة، ولكنها نيابة في تبليغ الأحكام وبيان الحلال والحرام وقبض الأموال الشرعية التي ترسل عادة إلى المرجع من المؤمنين، وهذه الولاية يحتاج حاملها إلى صفات أمثلها أن يكون مُتفقهاً في الدين ومعروفاً بالورع، ولا أقل من الأمانة، والمرجع لا يتسرع، ولكنه قد يُخدع، ولكن الله سبحانه يهيء له من يسدده، واعتقد أن السيد محمد جمال الذي كان يظن الحوماني أنه سيعاونه، سبقه إلى المرجع وأعطاه صورة عن واقعه، ولا ريب أن المرجع كان يعرف عنه الشيء الكثير لشهرته وتجواله وتحركاته.
ثم أخذ له موعداً ليتشرف بزيارة السيد أبو الحسن، فزاره، وأخبرني من حضر ولا أظنه غير السيد محمد جمال: إن السيد استقبله باحترام، وأنه كان كلما تكلم الحوماني مع السيد ابتسم له السيد وأجابه باللغة الفارسية، حتى كأنه لا يعرف شيئاً من اللغة العربية، ومن أجل ذلك لم يعرف الحوماني إلى أين وصل معه، ثم خرج ولم يحصل على شيء. وقد بلغني أنه عندما تحدَّث عن لقائه بالسيد في صحيفة كان يصدرها هو أو في صحيفة غيرها، تحدَّث عما كانت توحيه إليه ابتسامته الجميلة وعيناه البراقتان.
وهكذا استطاع السيد بحنكته واقتداره أن يتخلص مما يريده الحوماني، واستطاع الحوماني باقتداره وسموِّ أدبه أن يُعوِّض عن فشله بالتحدث عن وحي النظرات ولغة الابتسامات.

محمد علي الحوماني (1900 – 1964)
الشاعر المحسود

"سوف يُنْصَفُ الحوماني الذي كتب ستّ عشرة مسرحيّة وكتب القصة القصيرة بأسلوبٍ حديث… وظلّ الشِّعر تعريفه، وظلّت القصيدة ميدانه… بدأ الشعر مبكراً ومرَّ به على مجالاتٍ عدّة وطنيّة وعربية وإنسانية وذاتية مبدعاً مميَّزاً ومحسوداً إلى حدّ العمى. وبقي الغزل سيِّد شعره…" هذا بعض مما كتبه السيّد هاني فحص في نصّ تقديمه لأحد دواوين الشاعر محمد علي الحوماني "حوّاء المُلهَمة" الكتاب الذي أعادت طباعته حديثاً (عام 2011) "دار المدى" من ضمن سلسلة "الكتاب للجميع" التي توزعها شهريّاً مع عدة صحف عربيّة. هنا قصيدة من الديوان:
ظلال الربيع
بعينيكِ أبصرتُ وجه الحياة وفي غير عينيك لا أبصرُ
تنكَر لي وجهُها في النعيم خلا منك فردوسُه الأخضرُ
فما همست منه في مسمعي شفاه بخديك لا تُصهرُ
ولا أشرفتْ منه في خاطري حميَّاً بكفَّيك لا تُعصَرُ
ولا خطرَتْ منه في راحتي غُصون بنهديك لا تُثمرُ
أرى الخلدَ حيث أرى ناظريك يُسْلسَلُ بينهما الكوثُر
هنالك أبصِرُ وجهَ الحياة وألمسُها حيثما أنظرُ
هوىً تسبح الروحُ في خافقيْهِ فتوحي إليَّ بما أشعرُ
 

السابق
«شيخ شعراء جبل عامل» السيّد محمد نجيب فضل الله (1908ـ 1990)
التالي
الحسيني اعتذر عن عدم حضور اجتماع النواب السابقين