العلامة السيد علي مهدي الأمين: كبير علماء عصره فاض أدباً وشعراً نفيساً

 يقول السيد عبد الأمين في كتابه شقراء (صفحة من تاريخ الفكر العاملي) عن نسيبه وصهره المقدس السيد علي مهدي الأمين: "هذا العالم الجليل هو الحلقة الأخيرة من سلسلة العلماء الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه البلدة التي تسلّمت القيادة الروحية ردحاً من الزمن، وهو ربيب بيت علم عريق فهو ابن العلاّمة السيد محمد حسن الأمين ابن العلاّمة السيد علي مهدي ابن العلاّمة السيد مهدي ابن العلاّمة السيد علي ابن العلامة السيد محمد الأمين الذي انتسبت إليه العائلة".
درس على علماء آل الأمين في بلدته شقراء، ثم هاجر إلى النجف الأشرف على عادة كل طالب علوم دينية يبغي التخصص والتبحّر في علوم الفقه والأصول واللغة، وأبرز من أخذ عنهم من الأساتذة: المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني والميرزا النائيني والمرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
عاد إلى الموطن واستقرَّ في شقراء منتصف الأربعينات من القرن الماضي وتزوج من كريمة نسيبه السيد عبد الحسين محمود الأمين الأديب والشاعر الذي مرّ ذكره معنا، ثم انكبّ على الدرس والتحصيل والإشراف على أمور الناس الدينية والاجتماعية في ناحية بلدته وجوارها من القرى والدساكر العاملية على عادة ما كان يفعل كبار رجال الدين في زمنه، إذ لا تنحصر مهمة كبار العلماء في إطلاق الفتوى فحسب وإنما في حلّ المشاكل بين أفراد الرعيّة من نزاعات وخصومات حول زواج أو إرث أو طلاق ووصايا على أبناء وغير ذلك، حتى في النزاعات المدنية حول أرض أو دَيْن وخلافه وما يترتب على تلك الأمور من مندرجات ومسؤوليات بين أصحاب العلاقة، الذين كانوا ينزلون في النهاية تحت حكم الشرع وذلك إحقاقاً للعدل، وتوفيراً لهم في المال والوقت من الذهاب إلى المدينة وتوكيل محامين وحل نزاعاتهم قانونياً في المحاكم المدنيّة.
ويذكر الكثير ممن عاصروا علاّمتنا في ذلك الزمان كيف ان داره كانت تعجّ يومياً بالوافدين من أصحاب المظالم الضعفاء نساءً ورجالاً فيجدون السيد عوناً لهم على الظالم القويّ فلا يدعه حتى يأخذ الحق منه، فبات يُخشى ويُستهاب حتى اشتهر في ذلك وذاع صيته، و"كان مع إبائه وشدته وأنفته، موطئ الأكناف كريم الوفادة وعزيز النفس" .

رحيل مبكر مفجع
لم يمهل الدهر السيد علي مهدي الأمين فتوفي فجأة عن عمر 52 عاماً في قمة نضجة العلمي والأدبي وفي عزّ عطائه وحاجة الناس إليه فكانت وفاته فاجعة أليمة أصابت قلوب المؤمنين.
وللحديث عن هذا الخطب الجلل لم أجد أرقى ولا أشجى وأوفى من كلمات سطّرها الأديب المؤرخ السيد علي إبراهيم (رحمه الله) على صفحات العرفان تحت عنوان "شعراء من جبل عامل السيد علي مهدي الأمين" فيقول ما نصُّه :
"وقد رجع السيد مجازاً من أكابر العلماء، وسكن في بلد آبائه وأجداده، شقراء، منكباً على واجبه من إرشاد الناس، والفصل في خصوماتهم، ودعوتهم للخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وكان رحمه الله عفيفاً رصيناً عزيزاً أبي النفس شجاعاً مقداماً، انصرف عن المنفعة الحقيرة، وتعلق بالمثل العليا، فرمق ببصره الغاية الجلى التي هي مقصد فريق غير قليل من رجال التضحية والمبدأ.
وهو من الأعلام الذين عاجلتهم المنية قبل إكمال رسالتهم وبث ما يختلج في صدورهم. أستعرض في ذهني هؤلاء الكبار الذين مروا بالحياة سراعاً، شأن البدور التي لا تمتع الناس كثيراً بالسنا، ولكنها تزورهم لماماً، ثم تودع مأسوفاً عليها.
أستعرض في ذهني هؤلاء الذين بعثوا أصواتهم قوية منعشة وسرعان ما ذهبوا عجالة والكلمة لم تزل في أفواههم، والخاطرة في صدورهم تفيض أسى وحسرة، وكأنهم عندما انطلقت أصواتهم في دنيانا هذه، أدركوا برهافة حسهم، ونفاذ نظرتهم أن أيامهم قليلة معدودة، فأعطوا عطاء مودع سخي، رفعت له الحجب عما وراء الأبعاد من حقائق لا ترى بالعين العادية، عرف مصيره فزود الحياة وأبناءها بالخالد الباقي، وكأن العمر الحقيقي الذي أحبه ورغب فيه، هو بقاء الذِّكْر وخلود الروح، وما عدا ذلك فهو عَرَضٌ زائل لا يستحق العناية من العقلاء الموهوبين، ذوي البصائر النيرة والقلوب الكبيرة.
برعُم الزهر ما وجدتَ لتبقى بل ليمضي بك الخريفُ
هذه حالنا خلقنا لنشقى ولتمضي بنا الحتوفُ
إلى هنا نكتفي من مقالة السيد علي آل إبراهيم طاب ثراه.

تأبينه
وقد أبَّنه بعض شعراء جبل عامل ومنهم السيد عبد المطلب الأمين الذي ألقى في حفل تأبينه قصيدة عصماء ما لبثت أن ذاع صيتها وتناقلتها الألسن ونقتطف منها هذه الأبيات من مطلعها:
أبكلِّ يوم طعنة وجراح وبكلَّ بيت للردى أفراحُ
بالأمس شيعت المروءة محسناً ولها على الحسن الزكي نواحُ
واليوم للمهدي العلي مآتم ثكل الحمى فيها وضج الساحُ
تلك البقية من ذؤابة هاشم أدنى سجاياها ندى وسماحُ
تلك العمائم كالربيع نضارة تخضر منها أربع وبطاحُ
عطر النبوة في شذا طياتها ودم الحسين عبيرها الفواحُ
ومن الوصي وحاليات بيانه وسنا شمائله لهن وشاحُ
الخير معدنها ورائد خطوها ومدير دفتها هدى وصلاحُ
ما حاد عن سنن الهدى قدم لها كلا ولا مست حراماً راحُ
الخيرون المصلحون هم إذا عز الكرام وأملق الإصلاحُ
والواهبون النيرون هم إذا شح الزمان وأبطأ الإصباحُ
كانوا مصابيح الدجى في أمة طالت لياليها وغاب صباحُ
في الدّين والدنيا لنا أمثولة تحذى ومنا في الدُّجى مصباحُ
ما غاب عن ليل الورى قمر لنا إلا ليطلع مشرق وضاحُ
تأبى المروءة مذ رضعنا ثديها ألا لنا أن يستلين جماحُ
والخير أنا أهله رحماته وله علنيا خفقة وجناحُ
للناس للبسطاء للمستضعفين على البغاة لنا قنا ورماحُ
الحق لو فرشوا الدروب بما لهم لن تنثني عن بذلها الأرواحُ
شعره: كان شعر العلامة السيد علي مهدي الأمين ينضح شعوراً مرهفاً وعاطفة صادقة صافية كيف لا وهو ربيب "ربيع شقرا" المشهور بجماله الذي تغزّل به شعراء جبل عامل كافة ولا أجمل من فرشة التراث الأحمر الذي يعلوها مرج زهور البلاَّن والأقحوان الأحمر وألوان الزهور فوق المروج الخضراء والأشجار الباسقة التي تسكنها أنواع الطيور.
أعود الطبيعة يا بلبل لقد راق لي منك ما تفعلُ
ورقق قلبي منك الصفير ورقة صوتك لي تجملُ
أيا بسمة الفجر إذ يستطير ويا غرة الشمس إذ تقبلُ
لأنت المثير هوى العاشقين وعنك حديث الهوى سلسلوا
وأنت خطيب الورى في الغصون وكل القلوب به تحفلُ
فهذه ترنيمة يمدح بها النبيّ والأئمة واحداً بعد واحد قائلاً فيها:
أهوى النبيّ محمداً والمكتنى بأبي الحسنْ
والطهر فاطم بنته ثم الحسين والحسنْ
ثم الملقب نجله زين العباد الممتحنْ
والباقر العلم الذي حفظ الشرائع والسننْ
والصادق العلم المشار لفضله في كلّ فنْ
والكاظم الغيظ الصبور على الفوادح والمحنْ
ثم الرضا علم الهدى بحر الندى خصب الزمنْ
وعلى الجواد ومعولي من بعده فهو المجنْ
وبنجله الهادي اهتديت إلى الطريق المؤتمنْ
والعسكري ولاؤه في القلب مني قد سكنْ
ثم الذي بوجوده حفظ الورى حتى اطمأنْ
هم عصمتي وبحبهم ألقى إلهي ذا المننْ
 

السابق
د. عبد المجيد الحر: مدرّسٌ وناقد وشاعر طَوَّع الأوزان
التالي
السيد محمد حسين فضل الله أترع كأساً من نور ومضى وحيداً