مع المعارضة في سوريا والمقاومة في لبنان.. كيف ذلك؟

I ـ لا وسط بين «نعم» و«لا»
يقف العروسان، في لحظة حاسمة، تقرر مصيرهما معا، أمام الكاهن أو المأذون، وعليهما الاجابة بنعم حاسمة أو لا قاطعة، عن السؤالين التاليين: هل تريد بملء اختيارك فلانة زوجة لك؟ وهل تريدين بملء اختيارك فلانا زوجاً لك؟
اللحظة الحاسمة، تكون فاصلاً بين زمنين: زمن سيمضي بطريقه إلى الماضي، وزمن يفتتح طريقه إلى المستقبل. اللحظة هذه، هي نتاج نضج أثمر خياراً وتغييراً. ما قبل هذه اللحظة، طيش ربما، سعي أحياناً، عشق دائماً، توق إلى، رغبة في، تطلع إلى، استعداد لـ. ما قبل هذه اللحظة الحاسمة والفاصلة، تحضير وتحفيز وآمال وقصور في اسبانيا. في هذه اللحظة التي توجت أزمنة الاستعداد وأنهت زمن الحرمان وتحضرت لشرعية القران، لا يمكن أن يكون الجواب في حضورها، إلا بنعم.. غير مقبول الجواب بنعم ولكن… أو، بربما… أو، ما زال الوقت باكراً، أو لم تنضج التجربة، أو ألف حجة تحضر للتهرب من الالتزام المبرم، بالانتقال والتغيير، وبناء المشترك تحت سقف واحد، وفي محيط ملائم. لا يجوز القول بلا، خوفاً من مصاعب ما بعد القران. الجواب نعم، افتتاح لمستقبل جديد مؤسس على البناء، والعطاء، والحرية، والجمال، مع إدراك الأطراف المتعاقدة أن المستقبل سيطرح أسئلته المحرجة، ويلقي مسؤولياته على الجميع… ولا مهرب من المواجهة.
إذاً، على المثقف الذي أفنى قلمه وبذل كلماته حثاً على الحرية والديموقراطية والحداثة، المثقف الذي لم يغادر نصه الرفض التام للظلم والاستبداد والسرقة والاحتيال والرخص والسفالة والتبعية، المثقف الذي رأى الأنظمة العربية وساوى بينها طغياناً وافتراءً وكذباً ونهباً واستصغاراً وتلفيقاً… ليس مسموحاً له ان يقول في اللحظة العربية الحاسمة، لحظة اندلاع الثورة الديموقراطية (بنت ما كتب وابنة المعاناة أيضاً) ان يقول: نعم ولكن… أو ليت… أو انما الثورة ليست كذلك. لخص أحمد برقاوي في نصه عن الثورات العربية (السفير ـ 15 تموز 2011) المسألة بالحسم التالي: «لا شك في أن الثورات العربية اليوم استاذ قاس ويحمل عصا غليظة ليضرب من يجيب عن السؤال بـ«لا»، وسيصعر كمثقف الحياد و«لا أعرف» خده شرراً. المثقف الحقيقي والعضوي والديموقراطي هو الذي يجيب بـ«نعم» أنا مع الثورات العربية، لأنها كحركة شعبية تكنس التاريخ من «الأوساخ» التي تراكمت عليه منذ مئات السنين».
هذا هو موقف المثقف المفترض. غير أن الكلام أمر والواقع أمر آخر. لقد أجاز المثقف لنفسه، ما هو من حق السياسي، أو المنخرط في مشروع ذي قضية أو تحقيقا لغايات، ليست من طبيعة تشكيل الأنظمة ولا تمت إلى الديموقراطية وبنية الدولة بصلة. والبعض جوّز لنفسه اختيار «الثورة» التي تناسبه سياسياً. فالأنظمة الاستبدادية، اختارت معسكراتها، وفق ما يحقق استمرارها وديمومة تسلطها. فمن وقف إلى جانب ثورة تونس ومصر، أحجم عن الوقوف إلى جانب الثورة الديموقراطية في سوريا. والذين تخلفوا عن الوقوف إلى جانب المعارضة في سوريا، وجدوا أنفسهم في خندق واحد، مع المعارضة في البحرين، علماً بان الشعب في كلا البلدين، يتعرض لظلم شديد الشبه، بظلم ساد في تونس ومصر وليبيا واليمن، ومن تبقى حتى الآن، خارج دائرة الاهتزاز العنيف.
إذاً، المسألة ليست سهلة على المثقف، عندما يكون، إلى جانب دوره كمحرض ومشاكس ومتابع وكاشف ومفكر ومستطلع ومستكشف، لبيئة الحرية وقوام الديموقراطية ومواطئ الحداثة وإشكالية التقدم وأعباء التنمية وأدوار الثقافة… هذا المثقف، عندما يكون هذا وضعه وهذا دوره، لا يستمر على صراطه المستقيم الذي يرسمه في نصوصه، عندما يخرج من الكتاب والكتابة، إلى الجغرافيا وعالم الوقائع.
II ـ الثورة والمقاومة توأمان أم نقيضان؟
يقف المثقف في لحظة حاسمة، عليها يتأسس فصل جديد من التاريخ، ليسأل نفسه: هل أنا مع المقاومة؟ وعليه أن يجيب إما بـ«نعم» حاسمة، أو بـ«لا» رافضة، وغير مسموح له أن يبرر رفضه بأن المقاومة هذه، الحاضرة في زمنها، المثبتة لهويتها في التاريخ، المنجزة لمعجزتها في أيام معهودة، ليست من طبيعة المقاومات التي تنص عليها العقائد والنظريات والعلوم الاجتماعية، والدروس التاريخية والوقائع السالفة. ليس من حق المثقف الملتزم قضايا الحرية والتحرر، وكرامة الانسان في وطنه، وحق الإنسان في أرضه، وفي أن يكون مشاركاً حراً في صناعة أيامه وفصوله، انتاجا واقتصاداً وعمراناً وأدباً وفكراً وشعراً وموسيقى… ليس من حق هذا المثقف، أن يحتج على المقاومة هذه، الماثلة أمامنا، المرابطة على التخوم، هنا في لبنان، وهنا في فلسطين، ببعض ما لا يتفق ومقولاته وتفسيراته وقوانينه. ليس مقبولا، في مرحلة التجسد، في مرحلة الولادات، نكران الجسد والولد والتبرؤ من جنسه، لأنه من دين غير ديني أو من مذهب ليس مذهبي، أو من عقيدة ليست عقيدتي…
الثورة العربية الديموقراطية، لم تولد من كتاب أبداً، لم تولد من حزب بتاتا، لم تنشأ في مدرسة… هي بنت المعارف كلها، المبثوثة في وسائط الاتصال الاجتماعي، وهي معارف متخمة بالفكر والثقافة والتجارب الكونية، ونجد أساساتها في الحرية، القيمة الأعلى في سلم القيم، وتجد نصوصها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وتتلمس حضورها المؤكد في أنظمة ديموقراطية سيدة… وهي أكثر، بنت المعاناة المزمنة، معاناتنا ومعاناتهم، عطشهم وكسلنا عن الارتواء.
ليس من حق المثقف ان يسأل ويدقق، كأنه حاجز تفتيش ثقافي عن هوية أو دين أو عقيدة الثورة العربية، ما دامت تؤمن بالحرية والديموقراطية والتعددية والقيم الانسانية، وترفض رفضا قاطعاً، كل ما يشتبه في انه يمت إلى الظلم أو الظالم بصلة.
هذه الساحات العربية هي الرحم الذي أنتج اللحظة العربية الحاسمة، وعلى المثقف ان يضع رأسه جانباً ويتعلم من هؤلاء الذين يكتبون الثورة بأقدامهم المتراصة، بجباههم العالية، (والله، هذا ليس شعراً). الشباب في ساحاتهم برلمان مقيم على ديمومة الرفض للماضي ومظالمه، والطلب بنظام جديد، يتساوى مع انسانيتهم.
هؤلاء أساتذتنا… فليتعلم أصحاب العقول الكبيرة، أبسط البديهيات: «هكذا نصنع الثورة». اكتبوا ما تشاؤون. شكراً لكم، انما نحن نصنعها بالدم والعرق والسهر والقلق والقبضات الناعمة والثورة السلمية، بلا عنف ولا بلطجية. وكما لا يحق للمثقف ان يحاكم جيل الثورة الراهن، ليس من حقه أن يصبح مفتشاً ينبش ستر المقاومة بحثاً عما يتفق مع ميوله السياسية والعقدية واليسارية والقومية. وإذا لم يجد، شهر سيف النقد وتخندق في موقع الضد.
هذه مقاومة إسلامية في لبنان، فاما ان تقول «نعم» وتلتزم، وإما تقول «لا»… وتقتعد مكانا يستظل احتلالاً، من أشرس وأقسى وأعتى أنواع الاحتلالات… لانه احتلال استئصالي بالكامل. احتلال، يحل شعوبا شاردة محل شعب واحد مقيم.
ليس عندنا في أمتنا سوى هذه المقاومة راهناً. وبطاقة هويتها، مختلقة جذرياً عن سواها من مقاومات، عربية وغير عربية. هذه مقاومة لها حزب، وليست حزباً لمقاومة. ولأنها كذلك، فقد أنجبت سلسلة انتصارات، كان أعظمها، انتصار تموز 2006. هذه مقاومة، وهذا ماضيها، أما مستقبلها فوعود بانتصارات عظمى، ستغير وجه المنطقة، ومحفوف بمخاطر عظمى، قد تطيح بهذه الأمة إلى أبد يهودي عنصري.
هذه مقاومة هزمت اسرائيل، حررت لبنان، وتستعد لليوم العظيم.
III ـ نحو حل خرافي جميل!
لنعد إلى المأزق، ولنحاول البحث عن حل. وإذا أخفقنا، فلنلتزم بمبدأ الفهم المتبادل، كأن نقول: فهمناكم، وبودنا أن نكون معكم، لكننا لسنا كذلك، فكل فريق يجد مصلحته، (أؤكد على المصلحة) في أن يكون، إما مع معسكر المقاومة هذه، وإما ان يكون مع معسكر الثورة العربية هذه… المسألة خرجت من معترك النظريات، إلى ميدان الوقائع.
والوقائع تشهد على أن المقاومة في لبنان، مع النظام السوري، وليست إلى جانب حركة المعارضة. ولها في ذلك مذاهب وأقوال وحجج، لعل أبرزها، ان المقاومة في لبنان، بحاجة ماسة إلى ان تبقى خطوط تموينها وتذخيرها وتسلحها مفتوحة. والسلاح، ليس لزينة الرجال، بل لأن اسرائيل، التي توّجت نفسها امبراطورا كونيا، تجد نفسها أمام حائط المقاومة، ولا خيار لديها، غير خيار الانتظار. هي تنتظر اللحظة التي تصبح فيها المقاومة ضعيفة عسكرياً ومحاصرة تذخيراً.
المقاومة في لبنان، تستعد للمستقبل. تتهيأ للمعركة. وهكذا تفعل اسرائيل. واسرائيل، امبراطورة العالم، سيدة أميركا، وآمرة الرباعية، ومذيّلة الأنظمة الديموقراطية الغربية، وصاحبة الأمر والنهي لدى عديد أنظمة الاستبداد العربي، ترى ان معركتها الحقيقية والحاسمة هي في لبنان، عبر طحن المقاومة، وفي فلسطين، عبر قضم الأرض، ومنع ولادة الوطن الفلسطيني ولو بقرار من حبر، في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذه المقاومة ترضع قوة لها من ثديين، واحد سوري وآخر ايراني. وهذه المقاومة هي التي رفعت جماهير العرب، في بلدانها، اعلامها وصور رموزها، قبل أن ينبت للمذاهب خناجر توجه إلى الصدر والظهر.
هل يمكن للمعارضة في سوريا أن تتفهم ذلك؟ هل يمكن ان تعذر للمقاومة انحيازها إلى نفسها وإلى مهمتها؟ هل تعي هذه المعارضة ان علاقة المقاومة بالنظام السوري الراهن، الذي لم يبخل في تقديم أقصى الدعم لها، هي علاقة عضوية وحيوية ولا انفكاك؟ ومهما كان فعل ونشاط وتحرك المعارضة المشروع ضد طبيعة وسلوك هذا النظام، فهل هي قادرة على التمييز بين نظام يتحكّم بها، وفي الوقت نفسه، يقاوم ويمانع ويدافع؟ هل يذهب شر هذا بخير ذاك؟
خرجت تظاهرات تشتم حزب الله، وهو حزب المقاومة. اضمرت التظاهرات فتوى مذهبية: «المقاومة مع النظام، لأنها شيعية وهو علوي»، ثم كتب بيانات وصيغت مطالب وعقدت مؤتمرات، ولم يلحظ فيها شيء عن فلسطين، وبوابة فلسطين منذ عقدين، هي لبنان، (لا نستثني المقاومة في فلسطين).
هل مسموح أن تؤخذ المقاومة بجريرة النظام؟ ولنفرض ان المقاومة جنت واتخذت قراراً بدعم المعارضة ووقفت على الحياد إزاء النظام، ألا يعني ذلك انها أصبحت مكشوفة امام العدو الاسرائيلي؟ ألا يمهد ذلك لغزو جديد للبنان، تقذف فيه المقاومة إلى ما بعد بعد بعد الليطاني؟
هذا من جهة. الحديث عن سوريا يختلف عن أي بلد عربي آخر. تستطيع المقاومة ان تكتفي اليوم من جماهير تونس وجماهير مصر وجماهير اليمن وسواها، بالتأييد المؤجل، بالكلام الغامض، بكامب ديفيد مجمدة نسبياً. غير ان سوريا هي الحضن المالي والساعد الداعم لهذه المقاومة… ولا يجوز التأجيل.
حتى اللحظة، نظرة المعارضة السورية إلى المقاومة مثار تساؤل. لا كلام ايجابيا، بل اتهام، وهو محق بنظرها، لأن المقاومة في اعلامها، تشنع على المعارضة السورية وتصفها بالمؤامرة والمندسين والعصابات الديموقراطية.
هنا المأزق الكبير. ثورتان من طبيعة تحررية واحدة، تقفان في خندقين متناحرين، في لحظة حاسمة، الكلام الفصل فيها، لمن ينتصر. وإذا تأجل الانتصار، دخلت الأمة بوابة مراودة الانتحار.
ليس مطلوبا من المعارضة السورية إلا طمأنة المقاومة على مستقبلها، وهذا يستدعي حتماً، إرساء مرحلة انتقالية، تكون فيه هذه السلطة (أو بعض أركانها) ضمانة للمقاومة، في مقابل ان تقدم المقاومة ضمانة للإصلاحات المطلوبة من قبل المعارضة، التي أقرها مبدئياً ولو متأخراً، قادة هذا النظام.
هل هذا حل خرافي؟
ربما. غير أن البديل، هو استمرار المقاومة في تعبئة النظام السوري ضد «المؤامرة» وضد «المندسين»، مع تجاهل تام للقمع من جهة ومشروعية المطالب من جهة ثانية (وهي مشروعية التزمت بها المقاومة في تأييدها للثورات العربية). والبديل أيضاً، ان تستمر المعارضة السورية في طلب النجاة من المقاومة، والاستقالة عن دعمها واحتضانها، والذهاب بعيداً في الخصوصية السورية، بنت الكيانية والقطرية العربية، التي أضاعت فلسطين.
لو ان الدول العربية، كيانات مستقلة عن بعضها، لما انتقلت الشرارة من تونس إلى كل صقع عربي، قريب أو بعيد. الكيانات العربية متلازمة، متداخلة، متشابكة، متحاوية (من احتواء)، فلسطين تنسج ما بين الكيانات من وشائج ومصالح وانفعالات وقضايا. سوريا هي أم فلسطين. ما تبقى، خالات لها. ولا يصدق أن تتخلى المعارضة في سوريا عن فلسطين، وعن مقاومتها في لبنان.
ان القلق شديد والخوف أشد. خوف على المعارضة وخوف يوازيه على المقاومة… فمن يشجعنا على العبور من الخوفين؟ من يدفعنا بعيداً عن الهاوية؟

السابق
الخوري: سيطرأ تغيير على أسماء المشاركين في طاولة الحوار لأن الظروف تغيرت
التالي
الفلسطينيات يدخلن سوق العمل لمساندة أزواجهن وإعالة أسرهن