زعيم ماروني جديد اسمه بشـارة الراعي

أبرزت زيارة البطريرك بشارة الراعي قضاء جبيل التي استمرت أربعة ايام زعيماً مارونياً جديداً. الراعي الزعيم، كما أظهره الاستقبال الشعبي، طالب أمس بتعديل اتفاق الطائف محذراً من «الربيع العربي» الذي يكشف ان المشروع الذي تعيش اسرائيل من خلاله بأمان «بعدو ماشي»
تستعيد المنازل هويتها المعمارية الأولى على جانبي الطريق التي يُقال في القرى إن الحمار شقها. ما كانت قرى غرفين وجبالين وبيت حباق لتسمع هي نفسها بأسمائها لولا التفات البطريرك بشارة الراعي إليها. فالسياسيون وأهل الإعلام ورجال الدين غالباً ما ينشغلون عن القرى والبلدات المهملة بالقرب منهم بأخرى أقل إهمالاً قرب أحد الأشرطة الحدودية. تشكل هذه القرى امتداداً جبلياً لمدينة عمشيت الساحلية. يصل البطريرك: تخرج البلدة، أخذ أهاليها عطلة «على حساب سيدنا»، فعماد الكنيسة المارونية «يزورنا مرة في العمر». تمتد الذراع فوق الذراع لتلفا الحبل وترتفعا معه إلى السماء وتهبطا. تهتز الأرض من وقع القدمين والسماء من قرع الجرس. إلى هنا لم يصل الجرس الإلكتروني بعد، ولا تلك العلاقات الاستهلاكية العابرة سريعاً مع الأشياء.
يعرف نواب المنطقة الحاليون والسابقون هذا الأمر جيداً. تطأ قدم الراعي الأرض، كفّه الخارجة قبله من السيارة ملوحة ككف بشير الجميل في صورته الشهيرة. والضحكة، ضحكتهما و«جأرتهما»، الراعي وبشير، واحدة.
في المشهد كائنان: المتهافتون على يد البطريرك لتقبيلها، والبطريرك نفسه. فمن بلدة إلى أخرى في قضاء جبيل، تكرر الأمر نفسه في الأيام الأربعة الماضية: لم يبق أحد في منزله، لم يتفرج أحد من بعيد، لم يفضل أحد البحر أو الصيد أو الوظيفة على استقبال البطريرك. كان الكبار في تدافعهم للتبرّك أكثر عفوية من الصغار الذين حُمّلوا صوره. كان السباق للفوز بصورة مع سيدنا محتدماً، يكفي أن تتحرك إصبعه ليسود هدوء استثنائي. أما هو فيبتسم لهذا، يغمز لذاك، ويهمس في أذن ذاك. يلاحق الضوء تارة ويتصرف كأن الضوء ينبعث منه طوراً. فيتنقل بحماسة بين أذرع الراغبين في التقاط الصور معه، ثم يقتنص تساؤلاً لينطلق في محاضرة، قبل البحث عن مسن منزو ويتّجه إليه. وفجأة يترك كل هؤلاء ويشق طريقه صوب المذبح في إحدى الكنائس. يمشي كأنه يطير.
حرص الراعي على إبقاء الزيارة رعوية بالدرجة الأولى، فقد منع السياسيين من مرافقته في جولاته على القرى، كما سبق أن منع التصريح من منبر بكركي. ورفض دعوات السياسيين إلى الغداء، كما رفض المرور بمنزل سياسي غير منزل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في عمشيت. وحرص على إصدار المنظمين بياناً يضع حداً للشائعات عن تنظيم هذا السياسيّ أو ذاك مأدبة غداء أو احتفالاً على شرفه. لكن غياب السياسيين لم يحل دون وصول المشهد إليهم كاملاً. تحولت في بلاد جبيل الشائعات عن «الزعيم الماروني الجديد» إلى واقع: بَلَغَت السياسيين الأصوات المرتلة الهازجة في استقبال الراعي، وهم يعلمون أنها نفسها أصوات أولئك المشبعين بالعصبيات العائلية والسياسية والقروية، الحاقد بعضهم على بعض. والسياسيون يعرفون ان أحقادهم هي الأساس في ملكهم. وبلغهم أنها المرة الأولى التي يخرج فيها العونيّ منذ سنوات من منزله بغير البرتقاليّ ولغيره، وأن القواتي بدا للمرة الأولى مسالماً فيما كان الجميليّ يرقص هذه المرة دون دف الصيفي. وبلغ السياسيين أن أولئك المترنحين بين العونيّ والجعجعيّ، الذين انقسموا في انتخابات 2009 بين التيار والقوات بعدما أيدوا في المطلق عون في انتخابات 2005، تصرفوا هذه المرة وكأن لهم العيد: البطريرك يرضي هؤلاء، ويسحرهم بانتقائه ما يعجبه من هذا وذاك.
في جبيل أكد الموارنة أن ثمة بطريركاً جديداً لهم، وأن هذا البطريرك يتقن اللعبة الشعبية كاملة. وفهم من يعنيهم الأمر أن الزيارة «الرعوية» لا تحول دون تطرق الزائر في كل «حوار روحي» إلى القضايا السياسية. الذين انتخبوا عون وجعجع والجميل دون أن يروهم مرة في قراهم، رأوا هذه المرة بطريركاً يجلس بينهم، يأخذ ويعطي. في بيت حباق بدا أن دير الراهبات هو المقر الرئيسي لأبناء البلدة لا بيت الكتائب ولا مكتب التيار الوطني الحر. وفي الدير بدا واضحاً أن سهر الراهبات على متطلبات أهالي البلدة وتفاعل الطرفين أهم بكثير من سهر الحزبيين على متطلبات أهالي بلدتهم وتفاعل الطرفين.
الراعي زعيماً! ليس ذلك فقط؛ يحاول الحالمون (في يقظتهم أكثر مما في نومهم) ببشير الجميل أن يُلبسوا البطريرك الجديد النظارات البشيرية: معه في اللقاء الرباعي تستمر محاولة بشير الجميل لـ«توحيد البندقية» في «المنطقة الشرقية». عنده تنضج لهفة بشير الجميل الإعلامية ومواقفه الحامية. فيما يرى آخرون أن لا وصف بشيريّاً يصح على الراعي أكثر من الوصف الذي أطلقه الرئيس الياس سركيس على الرئيس بشير الجميّل: «مستعجل بكل شيء». نعم يسعى الراعي إلى الزعامة. فالقائد «يقود كل شيء أو لا يقود شيئاً». والخبراء في شؤون البطريركية المارونية يقولون إن الأشهر الأربعة الماضية أكدت سير الراعي على الطريق التي حاول الكاردينال الأول في الكنيسة المارونية بولس المعوشي أن يسلكها ليكون زعيم زعماء الموارنة. مع العلم أن التشابه بين البطريركين يتجاوز الطموح السياسي: صديق الفاتيكان المطلع عن كثب على أوضاع المسيحيين في العراق وفلسطين سيردد دون شك ما قاله سلفه: «عندما تطأ أول قدم لجندي أميركي لبنان، سأكون أول الذين يخوضون المعركة».
مشروع إراحة إسرائيل
خلال لقائه أمس نوّاب جبيل الحالييّن والسابقين الى جانب فعاليّات ورؤساء بلديّات ومخاتير من جبيل والقضاء في اللقاء الذي عقد بمدرسة راهبات الورديّة في بلاط، أعرب الراعي عن مواكبته «بكثير من القلق» تطوّر الأوضاع في العالم العربي، مرجحاً مستقبلاً من اثنين لما يحصل: فإما «تبرز أنظمة أكثر تشدّداً وتعصّباً من تلك الموجودة حاليّا، وإمّا يطبق ـــــ وللأسف ـــــ مشروع الشرق الأوسط الجديد وعنوانه تفتيت العالم العربيّ».
وباعتقاد البطريرك انّ «المشروع الذي تعيش اسرائيل من خلاله بأمان بعدو ماشي». هذا في ما يتعلق بالعالم العربيّ ككلّ، أما بالنسبة الى سوريا، فلبنان يتأثرّ حكماً بمجريات الوضع فيها، اذ «يكفيك رابط الجيرة يا سيدي» يقول البطريرك.
من جهة أخرى، اشار الراعي إلى أنه لا يُنتظر من البطريركية «قرارات تقنية» في العمل السياسي والتشريعيّ بل «واجبها الاشارة الى كلّ خلل نعيشه والعمل على تعزيز التلاقي والحوار لإصلاحه». والأهمّ بحسب البطريرك هو اتخاذ قرار في هذا الخصوص، كالطبيب الذي يقرّر في غرفة العمليّات أو القائد العسكريّ الذي يقرّر وهو على الجبهة، أو حتّى القاضي وهو على قوس المحكمة، والّا… يسكت البطريرك قبل أن يضيف: «ستبقى المشكلة وتزداد حدّة يوماً بعد يوم». أمّا انمائيّاً، فالمسؤوليّة «على عاتقنا لتعزيز الشؤون الانمائيّة في قرانا وايجاد فرص عمل والبحث عن حلول للمشاكل الاجتماعيّة التي تواجهنا، وخصوصاً أنّ الشعب اللبناني يزداد فقراً ويهاجر وينزح من القرى، وفي هذا الاطار تتحرك مؤسسات تابعة لبكركي، والعمل جارٍ حاليّاً على كودرتها بالتعاون مع مختلف اللبنانييّن». وكشف الراعي أن بكركي بدأت على الصعيد الوطني لقاءات مع البرلمانيين الموارنة بحضور ممثّلين عن سبعة تكتّلات برلمانيّة، تجتمع اللجنة مرّة كلّ أسبوعين لدرس قضايا مشتركة تهمّ جميع اللبنانييّن. والبطريرك يدعو مختلف الفئات اللبنانية إلى «اعادة النظر في صياغة الميثاق الوطنيّ، بمعنى تطويره دون إلغائه». ويضيف: «الانسان يتطوّر والجسم يتطوّر، فلم لا نطوّر صيغة الميثاق الوطنيّ؟» يسأل ويجيب بسؤال آخر: «نعاني مرضاً فلم لا نعالجه؟» وهذه المرة الجواب دون سؤال: «الجميع مدعوّون الى توقيع عقد اجتماعيّ جديد يطوّر الميثاق الوطنيّ، كمن يغيّر الديكور في منزل ثابت وسقفه واحد». يبتسم العونيون الموجودون، يضيف الراعي: «في شي مش ظابط باتفاق الطائف. ولا بد من ملء الثغر وتعبيد الحفر، بعدما أصبح ظاهراً للجميع كيف أصيبت عجلات القطار اللبنانيّ في الصميم».
الراعي، الذي لم يجب عن سؤال طرح خلال اللقاء عن مستقبل السلاح في لبنان، قال إنّ البطريركيّة تقوم باتّصالات مع القادة المسيحيين والمسلمين في العالم العربي من أجل أن تحتضن بكركي لقاءً تحدّد خلاله الثوابت المسيحيّة والاسلاميّة على مستوى العالم العربيّ، على أن تنظّم رئاسة الجمهوريّة مؤتمراً وطنيّاً سياسيّاً لصياغة عقد اجتماعي جديد يؤمّن التوازن بين اللبنانيين.
«… وخرافه تعرفه»
المعجبون بالراعي يقولون إن ثنائية عون وجعجع كانت دائماً عصية على الاختراق من قبل قوة مسيحية مؤثرة ثالثة، لكنها كانت دائماً عاجزة عن اختزال النفوذ المسيحيّ كله. من هنا «ظاهرة بشارة الراعي». جزء من مكانته يشبه مكانة نعمة افرام عند الموارنة والتي ليست أكثر من مكانة ماروني يده في جيبه، ومكانة زياد بارود التي ليست أيضاً اكثر من مكانة ماروني اقنع نفسه بقدرته على البروز. والمعجبون بالراعي يقولون إن ميشال عون وسمير جعجع بكل قدراتهما والقوى التي تساندهما لم يستطيعا محو منصور البون من الفتوح الكسرواني، لا لشيء إلا لتمسك الموارنة بماروني قادر أن يخدم، يستطيعون الوصول إليه حين يحتاجون إليه بعد منتصف الليل. ميشال عون وأمين الجميّل وسمير جعجع هنا، وميشال المر لا يزال «الماروني الأول» في المتن الشمالي. اسألوا نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة. هم هنا، ونسب «الهجرة المسيحية»، التي لم يكن يصدر بيان للعونيين والقوات والكتائب قبل سنوات دون تخصيص فقرة عنها، تتضاعف. هناك في جبيل «خروف» مع لافتة تقول: «أهلاً براعينا الذي يعرف خرافه وخرافه تعرفه».
الراعي تحميه «الفهود» و… المغاوير. بدا في العشاء الذي أقامه رئيس الجمهورية على شرفه يوم السبت الماضي رئيساً لجمهورية رئيس الجمهورية. لن تحل «العقدة المارونية» أبداً. كل من شاهد العماد عون يتفرج على نوابه يقبّلون يد البطريرك، قال ذلك. كل من شاهد رئيس الجمهورية يشاهد انحناء جمهوريته العمشيتية أمام «سيدنا»، قال ذلك. كل من سمع بغياب سمير جعجع عن اللقاء، قال ذلك. وكل من يعرف صعوبة أن تكون بطريركاً في منطقتك ومجرد زعيم مناطقي خارجها، يقول ذلك.

 

السابق
لهذه الأسباب لن تشارك قوى “14 آذار” في طاولة الحوار
التالي
الطفيلي: اي حزب يمكن ان يخترق والفساد زاد بعد حرب 2006